30-سبتمبر-2015

الحكاية أكبر من أن تروى

يحمل عنوان "حوض الشهوات" (الانتشار العربي 2015) رواية الكاتب والإعلامي العُماني محمد اليحيائي، زخمًا مندفعًا نحو التابوهات وتأويلات شتى في فكر كل ما يطالعه، فهو حوض يترع بالشهوة كما يراه البعض، أو حوض تتجلى فيه سيّر غامضة عن رجال من طبقات شتى تسردها امرأة غانية في شبق الليل كما قد يتخيله آخرون، لكن مما لا شك فيه أن هذا الحوض يستدعي نساء كثيرات، نساء فاتنات في قصر من قصور الملوك، ونساء القبائل اللواتي عرف الدلال طريقه إليهن وترسّخ على شكل حوض فائض بماء الشهوة والحب من قبل بعولهن أو آبائهن: "الحوض الذي بناه جدي لبناته، الوحيد في الولاية كلها".

ليس من السهل أن تقرأ رواية تفيض بحكايات النساء؛ لأن المرأة حكاّءة بفطرتها!

ليس من السهل البتة أن تقرأ رواية تفيض بحكايات النساء؛ لأن المرأة حكاّءة بفطرتها، ليس من السهل أن تقرأ رواية تمضي نساؤها عبر دروب تاريخية مضمّخة بذكريات حيّة في فكر كل منهن، وفق ما تجتر ذاكرتهن في زمن الحرب، وفي زمن الرجولة التي تناسلت عبر دهر شديد الوطأة وشديد الملوحة كبحر أحلامهن الذي ظل الدنو منه مطعّما بالحرمان والعيب والحرام..!
رواية "حوض الشهوات" تترافق ثلاث نسوة في داخل سرد متعدد الأصوات، سرد مركّب يستدعي قارئًا في تمام وعيه؛ كي يتلمّس الواقع من الخيال، الحلم من اليقظة، اليقين من الوهم، كي لا يتيه عن صوتهن..

هؤلاء النسوة انتقلن عبر تلك التقاطعات في أزمنة متفاوتة، لكن حكايتهن تلتقي على قدر ما تفترق، كل منهن حاملة فتيل ذاكرتها المشتعلة على نار الحروب، والأزمات السياسية الوعرة، بوجود رجال كانوا المعبر الأساسي لخوض تلك الأحداث المنغمسة بهزائم الحروب وانتصارات التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: "حارس حديقة المحبين".. عن البذاءة بالبذاءة

أولى نساء "حوض الشهوات" قوة وبأسًا في الحضور هي الزعيمة، ابنة البطل مبارك بن حمدان، التي كانت أقربهن إلى قلبه، فهي "الزعيمة" كما لقبّها، وهي التي قامت مقام الولد الذكر حين جعلها ترافقه في أعماله التجارية في سوق هو خاص للرجال فحسب، لكن الأب كان يؤمن بقوة زعيمته ومدى استحقاقها؛ كي تصون ذكره وتخلّده كأب وكبطل خاض حروب زمنه.

الزعيمة التي انهارت أحلامها دفعة واحدة وبعنف حين همد الأب القدوة وسقط قتيلًا في حرب ضروس ، تلك القدوة التي ظلت تفتش عنها طوال سنوات عيشها في كل رجل ولج حياتها المضطربة بعد موت الأب، بحثت عنه في زوجها المزارع الفقير ففشلت، وبحثت عنه في ابنها سلطان وفشلت، وبحثت عنه في ابنها مبارك سمي أبيها وفشلت أيضًا، لقد انهارت قدوتها، لكنها ظلت عنيدة لماضيها التليد، وفية لبريق سيف الأب، مخلصة لذكراه، حتى أنها كانت كالجمل تجتر ذكريات نفسها مرة بعد مرة بلا كلل "لم أعرف إنسانًا صلبًا طموحا ثاقب البصيرة عنيدًا في حلمه مثل أمي".

الزعيمة شخصية من صلب الواقع، قد تستجلب الإحباط لكل من حولها حين تأبى الاستمتاع بحاضرها وتقبّل من فرضهم القدر السيء عليها، كما ظلت تعتقد بخيبة طوال الرواية، حين تصّر على قلب الواقع الحاضر على وفق قوة حلمها وصلابة روحه، غير أنها قوية وفي هذه القوة تكمن السر، فقد كانت تسعى إلى دفع زوجها نحو حياة أغنى، ودفع كل من ابنيها إلى حياة حافلة تليق بمقام ابنة مبارك بن حمدان، حين أيقنت أنها فشلت تمامًا في استنساخه في واقع رجال أنجبتهم.

قوة الزعيمة في تمردها على حاضرها وعنادها لماضيها قريبة إلى روح شخصية متعب الهذال، بطل الروائي عبدالرحمن منيف في خماسية "مدن الملح"، في الجزء الأول منه تحديدًا حيث أسماه "التيه". الهذال الذي أعلن رفضه للهيمنة الأجنبية في أرضه، وحين انصاعت أرضه وأهله وقبيلته عزم أن يختفي، لعله في ذلك يعلن رفضه التام للحضور في زمن لا يشبهه، زمن لا يليق بتاريخه، زمن يسعى كما تصوّر لتشويه تاريخه الأبيّ في أرض جدوده..!

المرأة الثانية من نساء "حوض الشهوات" هي روز جلال، هدية الوالي. ظل الغموض لصيق هذه المرأة التي جاءت إلى بيت مبارك بن حمدان فاقتحمته كالريح، هي التي كانت الحكاية مثيرة بالنسبة للزعيمة وعلى وفق رؤاها: "تروي أمي الحكاية، كل مرة بنغمة مختلفة، الحكاية نفسها روتها روز مرات ومرات، في كل مرة كأنها ريح خفيفة تنفض الغبار من البيت ومن فيه ومرة كأنها نبتة غريبة زرعت في تربية غريبة".

نساء "حوض الشهوات" مهزومات، لكن الهزيمة هي نبض تحديهّن وقوتهّن وشراستهّن وقسوتهّن

زور جلال كانت أمثولة الغموض والجمال بالنسبة للزعيمة ولها منزلتها الرفيعة؛ لأنها هدية الوالي لمبارك بن حمدان، هي امتداد لتاريخه كبطل كما رأت الزعيمة بل آمنت، لذلك صلة هذا الافتنان تداعى بمجرد موت مبارك، وغدت روز جلال مجرد ماض بهت بريقه في حياة الزعيمة.

لكن روز نفسها كانت حكاية فتنة وإغواء كما روتها ليلى سليمان، فهي المرأة المشتهاة التي تسابق الرجال لبلوغ شبقها لكنها كانت أعتى من ماء ذكورتهم: "كانوا ينهارون ويتراجعون منطفئين أمام القوة الخفية لالتماعة عينيها في الظلام، حتى أن أكثرهم جرأة تمكن من ملامسة ركبتيها قبل أن يصاب بدوار يشبه دوار البحر..".

اقرأ/ي أيضًا: كمال الرياحي.. الحفر في النذالة

أما ليلى سليمان، المرأة الثالثة، فهي رمز للمرأة المناضلة التي سعت على طريقتها الخاصة في مقاومة الفساد المستشري في البلد بالهجرة كأنها في هذا البُعد، بُعد المسافات، تصون بلدها وتكمم هزائمه في روحها الطليقة، لتجد لها هناك في غربتها المديدة قرابة ثلاثين عامًا مرفأ الكتابة، فتجدد حكاية "حوض الشهوات" في ذاكرتها عبر الكتابة عن روز جلال كأيقونة ساحرة، هي نفسها التي كانت الأيقونة في قلب وزمن سالم مطر.

ليلى سليمان التي قاومت مرضها بالكتابة واجترار أوضاع الغربة المُرّة بعيدًا عن بلدها، وعن رأس الخيمة حيث وِجهّة أحبابها، هي نفسها التي حين رحلت لم ترحل حقًا، ليس في قلب وذاكرة سالم مطر فحسب، بل في قلب وذاكرة كل قارئ واع، لاحق بأنفاسه روحها طوال الرواية، حتى أن الأشياء افتقدتها: "أصبح البيت فاغر فمه ينادي ليلى، صورنا التي على الجدران وأرفف المكتبة وكومودينات السرير، كتبنا التي على الأرفف.

ليس سالم مطر وحده آمن أن ليلاه لم تمت بل كل من طالع شخصية ليلى سليمان في قلب الأحداث، فهي كانت تتوارى وتكشف عن نفسها بذكاء كما خطط اليحيائي في الرواية ثم علّق روحها المهيمنة على كل شيء كان يخصّها، كانت بمعنى أدق حكاية يُروى عنها وراوية تروي في آن.

وظلت حكاية هؤلاء النسوة مفتوحة على تأويلات شتى، على نهايات لا قفل لها ولا مقبض، على سرد مستمر في مخيلة القاريء؛ كي يعيد إحياءها وفق انغماسه في روح النص الروائي..
ذهب بل ولسون في قوله مرة: "نحن ندرك أن الهزيمة الكاملة هي وحدها الطريق التي تجعلنا قادرين على أن نخطو خطواتنا الأولى نحو التحرر والقوة".

وهذا ما حدث تمامًا مع نساء حوض الشهوات، كن مهزومات من الوطن، من الرجال، من الحروب. كانت الهزيمة، هزائم الحروب والحياة هي نبض تحديهّن وقوتهّن وشراستهّن وقسوتهّن؛ لذا أصبحن كوشم مطبوع في ذاكرة الذاكرة. 

لذا ظلت حكايتهن تدور كالرحى وخلفّن الذكرى، الذكرى فحسب وراءهن وثقبنّ سيرهن في أحشاء كل من أحبهن، كل من كان قريبًا منهن، كل من مرّ عليه تفاصيلهن أكانت أمّا أو حبيبة، هو اليقين نفسه الذي حفره مؤلفها اليحيائي على لسان سالم مطر "الذي ظل وحيدًا متوحدًا يجتر ليلاه وأحلامه المقاومة معها": "الحكاية أكبر من أن تروى، حتى هو ليس بمقدوره تذكر كل تفاصيل الرحلة، هي رحلت وخلفت وراءها الذكرى، والذكريات بقي هو من يجترها".