12-يوليو-2023
lkjh

مجموعات من السودانيين يغادرون بيوتهم ومدنهم هربًا من الاشتباكات بين قوات التدخل السريع والجيش السوداني. (GETTY)

أثناء الحرب الأهلية الإثيوبية، تحدثت صحفية شبكة "سي إن إن" السودانية، نعمة الباقر، في تقرير لها عن "تيار من الجثث على نهر سيتيت"، حيث كان النهر المعروف باسم "تكزي" في إثيوبيا يأتي حاملًا آثار الحرب الأهلية هناك ليعبر بها الحدود إلى السودان. تذكرت هذا العنوان وأنا أمر عبر الحدود البرية السودانية إلى إثيوبيا ضمن أمواج ضخمة من البشر في محطة مهمة من محطات رحلة الخروج من السودان عقب اندلاع الحرب بين القوات المسلحة والدعم السريع. وكان تيار النهر هذه المرة يعبر إلى الطرف الآخر من الحدود، ولم يكن يحمل جثث حرب جبهة التيغراي والجيش الفيدرالي الإثيوبي، بل كان سيلًا من  الفارين من حرب قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية.

في صباح الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، استيقظ سكان الخرطوم على أصوات انفجارات مروعة وإطلاق نار كثيف وتصاعد لأعمدة الدخان في سماء العاصمة. هذه الأعمدة صارت الشكل المعماري الجديد الذي يميز خط الأفق في "المدينة المثلثة". 

lkjh
لقطة جوية من فيديو يظهر أعمدة الدخان المنبثقة من العاصمة الخرطوم. (GETTY)

 

ولكن قصة الحرب السودانية ابتدأت قبل تاريخ إطلاق الرصاصة الأولى بكثير، بينما كانت الخطوات العملية الأولى في طريق اشتعالها. إذ بدأت بما يطلق عليه في لغة الجيش بـ"انفتاح" قوات الدعم السريع على الخرطوم وبعض المدن وأهمها مروي بمطارها الشهير شمالي البلاد.

وحاولت قوات الدعم السريع استباق الأحداث ببيان في الثالث عشر من نيسان/أبريل ينفي المعلومات المتداولة -حينها- عن قيام قوات الدعم السريع بـ"أعمال حربية" تجاه مطار مروي، حيث وصفت تلك الأنباء بـ"الكاذبة والمضللة". ولكن أتى بيان للقوات المسلحة في وقت متأخر من نفس اليوم ليؤكد المخاوف من أن الاشتباكات العسكرية بين القوتين الكبيرتين في السودان قد صارت وشيكة. وقالت القوات المسلحة في بيانها إن تحركات قوات الدعم السريع "تمت دون موافقة قيادة القوات المسلحة أو مجرد التنسيق معها".

الأيام الأولى للحرب

الاشتباكات المسلحة في الخرطوم اندلعت دون إعلان حرب مسبق، إذ سرعان ما سمع المواطنون انفجارات وأصوات إطلاق نار تركزت في منطقة مطار الخرطوم بالقرب من القيادة العامة للقوات المسلحة، ومباني المدينة الرياضية التي صارت معسكرًا لقوات الدعم السريع وما حولها.

وكما يؤكد محمد عزالدين (32 عامًا) لـ"الترا صوت" اعتقد العديد من الناس في الأيام الأولى للحرب أن الاشتباكات ستكون "معركة قصيرة للضغط لتحقيق أهداف تفاوضية"، أو حتى "مناوشات غير مخطط لها وسرعان ما سيتدخل العقلاء لوأد أتون الحرب في مهدها". هكذا يقول الشاب الذي غادر منزله الواقع بالقرب من معسكرات الشجرة في الخرطوم هو وأسرته بعد أيام عسيرة من البحث عن طرق آمنة وتأمين وقود الرحلة من الأسواق الموازية التي نشأت فجأة في كل مكان.

أثناء الحرب الأهلية الإثيوبية، تحدثت صحفية في تقرير لها عن "تيار من الجثث على نهر سيتيت"، حيث كان النهر المعروف باسم "تكزي" في إثيوبيا يأتي حاملًا آثار الحرب الأهلية هناك ليعبر بها الحدود إلى السودان. تذكرت هذا العنوان وأنا أمر عبر الحدود البرية السودانية إلى إثيوبيا ضمن أمواج ضخمة من البشر في محطة مهمة من محطات رحلة الخروج من السودان عقب اندلاع الحرب بين القوات المسلحة والدعم السريع.

في الأيام الأولى للحرب كان الخرطوميون يستيقظون كل صباح مسرعين إلى النوافذ والأبواب وأسطح البيوت للتأكد من حالة الاشتباكات، آملين في عدم سماع أي انفجارات لتتوقف الحرب فجأة كما بدأت دون إعلان. كما كانت هذه محاولات لاستقاء معلومات تفيدهم في تحديد قرارهم الخاص بالبقاء أو المغادرة من العاصمة التي صارت منكوبة في أيام قلائل، إذ خلت من المارة بسبب الاشتباكات العنيفة بشتى أنواع الأسلحة بين القوات المسلحة والدعم السريع التي تجري في شوارعها.

ولكن مع تطاول أمد الحرب وتصريحات المسؤولين وحروبهم الكلامية التي ما فتئت تزيد الصورة ضبابية وقتامة، قرر العديد من السكان مغادرة المدينة، بعضهم يقصد المدن المتاخمة، أو أقارب في مدن بعيدة آمنة، أو حتى مغادرة البلاد حتى تهدأ الأمور.

يقول محمد عزالدين لـ"الترا صوت": "واجهت صعوبات جمة في تأمين الوقود اللازم للرحلة باتجاه أقارب لنا في ولاية الجزيرة"، مشيرًا للأزمة الحادة في الوقود التي صاحبت اندلاع الاشتباكات، ويوضح أنه "توقفت جميع المحطات عن العمل مع بداية الحرب، فيما استغل البعض الفرصة لتهريب الوقود للأسواق الموازية حتى يباع بأسعار مضاعفة".

lkj
طابور من السيارات أمام محطة وقود  في الخرطوم، في ظل أزمة خانقة وشح بكافة الاحتياجات الأساسية. (GETTY)

 

وبعد لَأيٍ تمكن هذا الشاب من الحصول على كمية محدودة من الوقود، ولكن نظرًا لاستعار الاشتباكات كان لا بد من اتخاذ قرار المغادرة بما توفر، فقد وردتهم أنباء من الطريق القومي أن بعض المحطات المتاخمة لحدود العاصمة تعمل، وذلك على الرغم من الصفوف الطويلة التي بدأت تتراص أمامها من سيارات المواطنين الذين أجبرتهم الحرب على المغادرة على وجه السرعة.

الطريق إلى خارج العاصمة

بالنسبة للأغلبية العظمى من المواطنين الذين غادروا الخرطوم بسبب الحرب، كانت الطريق إلى خارج العاصمة بالنسبة إليهم هي الطريق إلى ولاية الجزيرة عبر "شارع مدني"، وكذلك منها إلى المدن الآمنة في شرق وشمال السودان. كان هذا أأمن الطرق لقلة احتمالية الاشتباكات وحوادث النهب والسلب المسلح التي انتشرت في طرق السفر، وبالأخص الطريق من الخرطوم شمالًا، بالإَافة إلى الطرقات غرب وجنوب البلاد التي شهدت انتشارًا لقوات الدعم السريع وجماعات النهب المسلح.

ولربما لا يصادف الخرطومي في الأيام الأولى للحرب وهو في طريقه باتجاه ولاية الجزيرة أثرًا مباشرًا للحرب، فيما عدا أعمدة الدخان المتصاعدة في سماء العاصمة، ومدرعات الفرقة الآلية الأولى المدمرة بالقرب من منطقة الباقير جنوبي الخرطوم وعلى قارعة الطريق السفري فيها، حيث دارت أولى المعارك الدامية في الحرب السودانية بين الدعم السريع والقوات المسلحة.

أبوشامة (24 عامًا) الذي غادر الخرطوم من منطقة الديم عقب سقوط قذائف في الحي، قال لـ"الترا صوت": "شعرت بالخطر بالفعل عندما شاهدت المدرعات والآليات الحربية المدمرة في منطقة الباقير، عندها تأكدت لي جدية وفداحة ما يدور بين الدعم السريع والجيش السوداني".

;
عربة مصفحة تابعة للجيش السوداني جنوب الخرطوم. (GETTY)

 

يقول هذا الشاب لـ"الترا صوت" إنه لم ير طوال الطريق من الديم وسط الخرطوم وحتى تخوم ولاية الجزيرة سوى ارتكازات لقوات الدعم السريع، حيث يفتش منسوبو هذه القوات السيارات ويسألون عن بطاقات من فيها، ويضيف: "بعضهم كان تعامله قاسيًا ومخيفًا، وآخرون رمقونا بالنظرات المتفحصة فقط".

وفي رحلتي الشخصية إلى خارج الخرطوم من حيث منزلي بالقرب من نقطة اندلاع الحرب جنوبي العاصمة، لاحظت تشكُل محطة مواصلات سفرية في منطقة "السلمة البقالة" عوضًا عن ميناء الخرطوم البري الذي يقع قريبًا من مناطق جبرة والمدينة الرياضية، والتي تعد من أسخن النقاط منذ الأيام الأولى للحرب. من هذه المحطة الجديدة كان الناس يغادرون الخرطوم وهم يحملون من بيوتهم التي فارقوها على عجل كل ما خف وزنه وغلا ثمنه للسفر على شتى أنواع السيارات وحتى شاحنات نقل البضائع. أسعار الرحلات في هذه المحطة الجديدة كانت معقولة وثابته بعض الشيء مقارنة بأسعار الرحلات الفلكية التي طالب بها بعض  أصحاب الباصات السفرية، بالذات في الميناء البري. 

.lkjh
محطة مواصلات سفرية تشكلت بشكل عفوي في منطقة السلمة البقالة عوضًا عن ميناء الخرطوم بري. 

 

وبعد آخر تفتيش للدعم السريع في الطريق نحو مدينة ودمدني، حاضرة ولاية الجزيرة، كانت الأوضاع تبدو مستقرة بعض الشيء على الرغم من السيل البشري الخارج من العاصمة القومية، وصفوف الوقود الطويلة التي يشغلها أشخاص فضلوا الانتظار في الصف أو اضطروا لذلك بدلًا من الشراء بأسعار مضاعفة من باعة الوقود غير النظاميين المنتشرين بالقرب من المحطة.

هؤلاء الخارجون من الخرطوم مهندسون وأطباء ورجال أعمال وطلاب جامعيون وأسر بأكملها حملت ما يمكن حمله من بيوت شيدوها بعرق السنين بعد أن اضطرتهم الأوضاع الآخذة بالتدهور للهرب بحثًا عن ملاذات آمنة في منازل الأقارب والأصدقاء، وحتى شقق الإيجار التي بدأت أسعارها في التزايد بمنحنى مضطرد مع وصول المزيد من النازحين.

تقول منظمة الهجرة الدولية إن أكثر من (2.1) مليون شخص غادروا منازلهم في السودان، أغلبهم من العاصمة الخرطوم مع حوالي 66%، تليها ولاية غرب دارفور التي شهدت مجازر مروعة منذ بداية الحرب. واستقبلت الولاية الشمالية وولاية الجزيرة وولايات شرق السودان العدد الأكبر من النازحين داخليًا، فيما غادر حوالي نصف مليون شخص إلى خارج البلاد.

آثار الحرب في الولايات

لم تتبد في الأيام الأولى آثار الحرب في الولايات التي لم تشهد اشتباكات بشكل واضح، ولاحظ السكان في ولايات الشرق والشمال ازدحامًا "أكثر من المعتاد" في فترة الأعياد، إذ يغادر كل عام عدد ضخم من سكان الخرطوم مدينتهم لقضاء العطلة مع الأسر الكبيرة الممتدة في الأقاليم. ولكن لم تمض أيام حتى بدأت آثار الحرب في الولايات تظهر في الضغط الكبير على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والإمدادات الغذائية، وهي خدمات كانت بالأساس تتركز في العاصمة الخرطوم وتعتمد عليها. وصرح والي ولاية الجزيرة أن الولاية استضافت أكثر من أربعة ملايين من المتأثرين بالحرب "مما أثر على المرافق الخدمية بالولاية"، كما حذرت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان من انهيار النظام الصحي في ولاية كسلا وتعطل غرفة العمليات الوحيدة.

وكان من أبرز آثار الحرب على الولايات زيادة فترات انقطاعات الكهرباء، حتى أن التيار الكهربائي صار يأتي لساعات معدودة، وأحيانًا يمضي اليوم بدون كهرباء ولا مياه جارية. كما تأثرت شبكات الهاتف المحمول والإنترنت وبالتالي التطبيقات البنكية والأعمال عبر الشبكة العنكبوتية.

تكدس الآلاف في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر ونقلت البعثات الدبلوماسية والمنظمات الأجنبية مكاتبها لتلك المدينة، كما وصل آلاف المقيمين الأجانب والسودانيين المقيمين بالخارج للاستفادة من رحلات الإجلاء التي نظمتها العديد من الدول عبر البحر الأحمر ومطار بورتسودان.

في الجانب الآخر، وللمفارقة، انتعشت السياحة وامتلأت المقاهي والمحلات التجارية في هذه الولايات، وشهدت جبال توتيل بولاية كسلا تجمعات بشرية كبيرة لم تشهد مثلها منذ سنوات خارج فترات العطلات، كما أعاد السودانيون اكتشاف البحر الأحمر. 

[po
انتعشت السياحة والمقاهي والمحلات التجارية في الولايات وشهدت المناطق السياحية إقبالًا من الزوار الجدد (جبال توتيل، ولاية كسلا).

 

الرحلة إلى خارج السودان

قرر العديد من السودانيين مغادرة البلاد نتيجة للصعوبات التي يواجهونها حتى في المناطق الآمنة، إذ ارتفعت أسعار الإيجارات والمواد الغذائية بصورة كبيرة، كما انعدمت العديد من الخدمات واقترب النظام الصحي من الانهيار في ظل شح في الأدوية المزمنة والمنقذة للحياة.

الرحلة إلى خارج البلاد عبر الشمال والشرق تمر بالحدود المصرية والإثيوبية، إذ شهدت المعابر الحدودية غير المجهزة لمعالجة أعداد ضخمة من المواطنين ازدحامًا غير مسبوق وحالات إنسانية نتيجة للبيروقراطية في التعامل مع الفارين من الحرب في السودان، أما في الاتجاه الآخر نحو تشاد وجمهورية جنوب السودان فقد كان خط الحدود شاهدًا على نزوح السودانيين الكبير من البلاد نتيجة للحرب التي اتخذت طابعًا عرقيًا في دارفور، ودخول الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة عبد العزيز الحلو، في المواجهات في كردفان.

قال لي خالد محمد الذي كان ضمن النهر البشري الصاعد للهضبة الحبشية من السودان: "أشعر بالاختناق! لقد تركت كل شيء خلفي؛ شقتي التي أنفقت عرق السنين في تجهيزها، عملي وأصدقائي وكل حياتي في الخرطوم". فكرت في نفسي حينها أن هذا النهر أيضًا ربما يحمل الكثير من الجثث، لكن في الاتجاه المعاكس هذه المرة.

oi
سودانيون في مطار قندر الإثيوبي.