في حين ما زالت أوساط واسعة من اليسار الألماني، تعتقد أن "العالم المظلم" الذي تتخيله فرق اليمين المتطرف، المتمثل بسقوط النظام الاجتماعي، مجرد أوهام تصلح للسخرية، فإن اليمين في بعض المقاطعات الشرقية يبدو أكثر جدية، ويستهدف مجموعات جديدة لتعزيز خطابه، كما أن الخطر الذي لا بد إلى الالتفات له، هو علاقته مع بعض الموظفين ورجال الأمن داخل مؤسسات الدولة، مثل الشرطة والقضاء والجيش. وكما يوضح هذا المقال المترجم عن صحيفة "جاكوبين"، فإن ناقوس الخطر أصبح يدق في شرق ألمانيا، إلى درجة لا يمكن للقوى الديمقراطية واليسارية، أن تدعي عدم سماعه.


تسبَّب حشدٌ عنصريّ قبل فترة في ترويع مدينة كيمنتس، شرقي ألمانيا. وتُظهِر تلك الروح المفعمة بالعنف التي سيطرت على الشوارع حجمَ الثقة المتزايدة التي اكتسبتها جرأة اليمين المتطرف.

ما حدَث في مدينة كيمنتس لم يكن وليدَ اللحظة. إنّما هو تصعيدٌ نوعيّ لنمطٍ مستمرّ من التشدّد وتنامي التيّار اليمينيّ المتطرف في جميع أنحاء ألمانيا

انطلق آلاف الفاشيين المتبجّحين والمتعاطفين معهم في مسيرةٍ جابَت أنحاءَ مدينة كيمنتس، البالغ عدد سكّانها 250 ألفَ نسمة، والواقعة في ولاية ساكسونيا شرقي ألمانيا. اشتعلت تلك المسيرة بسبب اشتباه مقتل رجل ألمانيّ من أصلٍ كوبيّ يبلغ من العمر 35 عامًا على يد اثنين من طالبي اللجوء، وقد احتشدت في هذه المسيرة الاحتجاجية أعدادٌ غيرُ مسبوقة من القوى المناهِضة للهجرة. في غضون ذلك، تعرَّضت مجموعة من العصابات الفاشية بالمُضايَقات وصَيحات الاستهجان لبعضِ السكان المحليين، والذي بدا أنّهم من غير البِيض، وهتفوا "اطردوا الأجانب". وكانت الشرطةَ المحلّيّة وكأنها مَغلوب على أمرِها، أو غيرُ مكترثة لفعلِ أيِّ شيءٍ حيال ذلك.

ما حدَث في مدينة كيمنتس لم يكن وليدَ اللحظة. إنّما هو تصعيدٌ نوعيّ لنمطٍ مستمرّ من التشدّد وتنامي التيّار اليمينيّ المتطرف في جميع أنحاء ألمانيا. ساعد في ذلك النجاحُ الذي حقّقه حزبُ "البديل من أجل ألمانيا" AfD في الانتخابات العامة الأخيرة التي أُجريت عام 2017، والتي حصل فيها على أكثر من 12% من أصوات الناخبين. وفي الوقت الذي انخفضت فيه بالفعل أعداد المهاجرين بشكلٍ لافتٍ للنظر خلال السنوات الثلاث الماضية، استمرّ القلق العام بشأن الهجرة في التصاعد، بحيث أصبحت المسألة الأكثر أهمّية في الأوساط السياسيّة الألمانيّة من أيّ وقت مضى.

اقرأ/ي أيضًا: مارتن شولتز.. اللعب مع الشعبويين على قواعدهم

إلا أنه في خضَمِّ الصعود العام لليمين المتطرف، شكّلَت الأحداثُ التي وقعت في كيمنتس سابقةً خطيرةً بشكلٍ خاص. فهي تعكس أوهامًا انقلابيّة لدى المنظّرين الفاشيّين، تهدف إلى تعزيز رؤية التغيير السياسيّ العنيف. تعمل القوى اليمينيّة المتطرِّفة بنشاط - من خلال حركات الشارع وفي مقدّمتها حزب "البديل من أجل ألمانيا، على تهيئة وإِنضاج حلم "الثورة".

مرحلة جديدة قاتمة

في الحقيقة، تتوافق الأحداث في مدينة كيمنتس بشكلٍ كبير مع الخطاب اليوميّ لقوى اليمين على شبكات التواصل الاجتماعيّ والمدوّنات والمنتديات. إن هناك الكثيرين من اليسار الألماني يرفضون فكرة أن "أزمة اللاجئين" قادرة على إثارة قدر من الاضطرابات المدنيّة التي يمكن أن يشعل أزمة شاملة داخل النظام. فهم يرون أنّ هذه ما هي إلا نقطة نقاش سطحيّة يُثيرها أشخاصٌ عنصريّون هامشيّون على الإنترنت أو أصحابُ نظريّة المؤامرة من أنصار اليمين المتطرف.

إلا أن هذا الموقف لا يعدو كونه مجرد توهّم يبعث على الطمأنينة، ومن الضروريّ بمكان التخلّي عنه. فعندما تبدأ في أخذ تلك الآراء على محمل الجدّ، سوف تدرك أنّ قطاعاتٍ كبيرة نسبيًّا من اليمين السياسيّ تعتقد أنها تبني بالفعل نسختَها الخاصة القاتمة للحالة الثوريّة، وتعمل بوعي وإدراك كامل على الانتقال قُدمًا بتلك العملية إلى المرحلة التالية.

تستند الحجج المتطرّفة للجناح اليمينيّ بشكل دائم تقريبًا على الفشل المزعوم للدولة في التعامل بشكل مناسب مع ملف الهجرة. وهناك سبب لذلك؛ فهو يساعد في تبرير موقفٍ يمكن من خلاله تفسير أفعال اليمين على أنها "دفاع عن النفس". فبموجب القانون الألماني، لا يتعرّض للعقوبة مَن ارتكب أعمالَ عنفٍ في إطار الدفاع عن النفس؛ وبالتالي فإنّ الادعاء بالدفاع عن النفس في ظلّ "فشل الدولة" يوفّر مبرِّرًا عقلانيًّا مقبولًا  للمظاهر العنصريّة الواضحة لعمليّات "العدالة" الأهليّة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الحشود العنصريّة في مدينة كيمنتس ما هي إلا جرس إنذار لما يمكن أن يعنيه هذا الشكل من التبرير، وما يمكن أن ينتظره المجتمع الألمانيّ من اليمين المتطرّف في المستقبل.

مثال صريح على هذا الرأي جاء في مقالة مفصّلة بعنوان "هل هي نقطة التحول الثانية لكيمنتس؟" نُشِرت على مدوّنة "الخطأ السياسيّ" (Politically Incorrect) التابعة لليمين الألمانيّ. وتنتهج هذه السردية أسلوب التشبيه البيولوجيّ: فقد صُوِّرت الحشود وأعمالُ الشغب على أنها ردّ فعل طبيعيّ ووقاية ذاتيّة موجودة بشكل تلقائيّ داخل الجهاز المناعيّ للسكّان المحليّين، يعمل على مقاومة الدخيل الأجنبيّ الضار. وكما ترغب المقالة في إقناعنا، فإنّ هذا "الجهاز المناعي" لا يعمل بشكلٍ صحيّ في جميع أنحاء ألمانيا مثلما يعمل في المناطق المحيطة بمدينة كيمنتس.

رجل خلف الكواليس: بيرون هوكه

لقد حان الوقت المناسب كي يأخذ اليسار هذا النوع من التصريحات على محمل الجدّ. فلكي نفهم إلى أيّ مدى قد تغلغلت هذه الأفكار في الخطاب السياسيّ الألمانيّ، لا نحتاج سوى إلى إلقاء نظرة على حزب "البديل من أجل ألمانيا"، ذلك الحزب البرلمانيّ اليمينيّ المتطرّف الصاعد وأحد قادته الأيديولوجيّين، بيرون هوكه. يقود هوكه الحزب في ولاية تورينغن، ويظهر باستمرار كمتحدّث رسميّ في الفعاليّات والمسيرات التي ينظّمها الحزب.

لقد روّج المفكّر اليمينيّ المتطرّف منذ فترة طويلة نسختَه الخاصّة والفريدة من الفكر الثوريّ. غالبًا ما يشير في خطاباتِه إلى أفكار ترجع إلى أشخاص مثل أنطونيو غرامشي وفلاديمير لينين، وبعض الأقاويل المتناثرة لآخَرين من مفكّري الطليعة الثوريّة. فعلى سبيل المثال، في خطاب ألقاه العام الماضي خلال مؤتمر نظمته مجلة كومباكت (Compact) التابعة لليمين، أشار إلى أنّ سارة فاجنكنخت، زعيمة كتلة حزب "اليسار" في البرلمان الألمانيّ، وعلى عكس لينين، تفتقر إلى الشجاعة لقيادة انشقاق في حزبها من أجل تحقيق الغاية الثورية. من خلال قراءة ما بين السطور، نجد من الواضح أنّ هوكه يشير إلى أنّه يمتلك تلك الشجاعة لقيادة انشقاق مثل هذا.

تبدو حقيقة أن هوكه جاد في هذا الصدد من خلال كتابه الأخير بعنوان "لا نبحر في نفس النهر مرتين" (Nie zweimal in demselben Fluss). في هذا الكتاب، يحدِّد هوكه رؤيته لألمانيا أخرى، والتي يتطلّب تأسيسُها جهودًا سياسيةً مستمرِّة على مدى أجيال عدة. لا شكّ أن هذا الكتاب يُعد مؤشرًا مرعبًا يُظهِر كيف أنّ أفكار هوكه حول ألمانيا لا يمكن أن تتحقّق إلا من خلال ثورة يمينيّة.

تستند الحجج المتطرّفة للجناح اليمينيّ بشكل دائم تقريبًا على الفشل المزعوم للدولة في التعامل بشكل مناسب مع ملف الهجرة

اُقتبس عنوان الكتاب من الفيلسوف اليوناني هرقليطس، وهو ما يظهِر أنّ فكرة هوكه مبنيّة على فهم للتاريخ يكون فيه أي مجتمع في حالة انتقاليّة دائمة إلى أشكال جديدة من الحكم. بالنسبة لهوكه، نحن نواجه اليوم "المرحلة الأخيرة من فساد الديمقراطية"، والتي ستتبعها مرحلة من الاستبداد المُطلَق. هذا الانتقال يمكن أن يتحقق من خلال "التجديد"، وهو التعبير الذي يكنّي به هوكه عن الثورة. ما مِن شكّ أنّ نظريّتَه الفاشية مُفعمةٌ بأوهام الانقلاب، والاستحواذ العنيف على السلطة. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال هوكه أحد أهمّ القادة الإقليميّين في حزب "البديل من أجل ألمانيا".

وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى القواعد الداعمة التي يعتقد هوكه أنها سوف تُشعِل ثورتَه، والتي يسميها "المعارضة الشعبيّة"، وتتكوّن من ثلاث "جبهات": أوّلها، وبما لا يُثير أيَّ نوعٍ من الاستغراب، حزبه "البديل من أجل ألمانيا". والجبهة الثانية، هي حركات الشوارع، مثل حركة بيجيدا PEGIDA (أوروبيون وطنيّون ضد أسلمة الغرب)، أو بعض الأنماط الأكثر تلقائيّة مثل حشد مدينة كيمنتس. أما الجبهة الثالثة فتتألّف من "القطاعات المُحبَطة في الأجهزة الأمنيّة ومفاصل الدولة، والتي تجد نفسها مُضطرّة للتعامل مع سياسات الحكومة المختلّة، وحقّها في إظهار اعتراضها".

يحاول هوكه التعميةَ عن هذه النقطة وتغليفها في مصطلحات قانونيّة، لكنّ معناها الحقيقيّ واضح: إنه يقترح على المسؤولين الحكوميين والموظّفين المدنيّين عصيانَ الأوامر. وفي مناسبات أخرى، يتحدّث بشكل أكثر حدة. ففي الاحتجاجات اليمينيّة، يشعر هوكه في أحيان كثيرة بالثقة الكافية لمُطالبة ضبّاط الشرطة برفض الأوامر الموجَّهة إليهم من رؤسائهم. يعتمد منهجه، في نهاية المطاف، على تقسيم قوى القضاء والشرطة والجيش إلى معسكرَين: أحدهما مؤيد لثورته، والآخَر معارض لها؛ وهو ما يعني تقويض سلطة الحكومة على المؤسسات المفصليّة للدولة - الأمر الذي يُعدّ مُكوِّنًا أساسيًّا لأيّ ثورة أو انقلاب.

يمكن ببساطة تجاهُل هذا السيناريو باعتباره خياليًّا أو مُثيرًا للقلق. إلا أنّ تركيز هوكه على "أجهزة الدولة والأجهزة الأمنية" يبرهن على وجود مغزًى عمليّ عالي المستوى. هذه الجبهة الثالثة عنصرٌ جديد في "المعارضة الشعبية"، والذي يتكوّن حسب تصوره - المستمَدّ من أفكار روزا لوكسمبورغ، المنظِّرة الماركسيّة- من جانبَين: الجناح البرلمانيّ وحركة الشارع. يبدو أن هوكه قد عدّل من وجهة نظره بعد تقييم التطوّرات الأخيرة داخلَ حزبه. ففي نهاية المطاف، أصبحَ حزبُ "البديل من أجل ألمانيا" ملاذًا لرجال الشرطة والجنود والمسؤولين القضائيّين الذين يتبنون آراءًا سياسية بين التوجه المحافظ والتوجه المتشدد لليمين المتطرف.

اقرأ/ي أيضًا: قبحٌ قديم.. ثورة اليمين المتطرف في ألمانيا على "الاستخفاف"

من بين أربعٍ وتسعين عضوًا لحزب "البديل من أجل ألمانيا" داخل البرلمان، هناك ثلاثون على علاقة وثيقة بالقطاعات الأمنيّة أو القضائيّة أو العسكريّة. أربعة أعضاء منهم مدّعون عامّون سابقون، أو مدّعون عامّون بارزون، أو قضاة. من بينهم أيضًا ينس ماير، قاضي دريسدن السابق، الذي شارَك في تنظيم احتجاجات حركة بيجيدا، والمعروف بهجومه الكلاميّ القاسي بشكلٍ خاص على المسلمين. كما أن هناك سبعةَ عشرَ برلمانيًّا من حزب "البديل من أجل ألمانيا" لهم صلات بالجيش، بالإضافة إلى سبعة آخرين لهم صلات بالشرطة.

أصبح حزب "البديل من أجل ألمانيا" في ولاية مكلنبورغ- فوربومرن، شمال شرقي ألماني، ملجأً لبعض ضباط الشرطة المثيرين للريبة. إذ ينتمي أحد قادة الحزب البارزين هناك، ويُدعَى نيكولاس كرامر، إلى إحدى المنظمات اليمينية المتطرفة، وينشر صورًا تشيد بالجنود النازيين على شبكات التواصل الاجتماعيّ (وقد علَّق ذات مرّة على إحدى صور ضباط وحدات شوتز شتافل قائلًا "ليس البلاك بلوك شيئًا سيِّئًا على الدوام")، كما أن له حساب آخر على فيسبوك عبَّر عن "إعجابه" فيه بالجماعات اليمينيّة المتطرّفة.

من بين أربعٍ وتسعين عضوًا لحزب "البديل من أجل ألمانيا" داخل البرلمان، هناك ثلاثون على علاقة وثيقة بالقطاعات الأمنيّة أو القضائيّة أو العسكريّة

وربما يكون الأمر الأكثر رعبًا من بين كل ذلك، هو حالة المُشتبه في ضلوعه في عمل إرهابيّ، ضابط الشرطة السابق وعضو حزب "البديل من أجل ألمانيا"، هايك ياغر. فهو جزء من نوع من "المتأهِّبين" اليمينيّين المتطرِّفين، المثيرين للسخرية في كثير من الأحيان، الذين يخزّنون الطعام، ويبنون المخابئَ استعدادًا لانهيار النظام الاجتماعيّ. كان هايك عضوًا في إحدى منظمات المتأهّبين تلك، وتُعرف باسم "نوردكروز"، والتي أسَّسها أحد مفتّشي شرطة ولاية مكلنبورغ أيضًا، وقد ضمّت إلى صفوفها أعدادًا كبيرةً من الاحتياطيّ العسكريّ. هذه المنظمة، بالإضافة إلى ياغر نفسه، متّهمَة بالضلوع في أعمال إرهابيّة، استنادًا إلى خططهم المزعومة لاغتيال المعارضين السياسيّين.

اُكتشف أمر منظمة نوردكروز في نهاية المطاف بسبب ذكرِها في التحقيقات حول قضية الملازم العسكري فرانكو إيه، والذي وَضَع قائمة اغتيالات لمعارضيه السياسيّين. انتشرت قصة هذا الرجل في جميع أنحاء ألمانيا، بعد أن أمضى عامًا كاملًا متنكّرًا في شخصيّة لاجئٍ سوريّ، كجزء من خطته لشنّ هجوم إرهابيّ، تُلصق التهمة فيه بطالب اللجوء المزيّف. كذلك قُبِض على جنديٍّ آخَر -إلى جانب فرانكو إيه- كان عضوًا في حزب "البديل من أجل ألمانيا".

لم يثبُت وجود روابط مباشرة بين فرانكو ومنظمة نوردكروز. إلّا أنّ العلاقة بين الطرفين تشير إلى إحتماليّة وجود شبكة داخل الأجهزة الأمنية للدولة، والتي تتجسد ليس في انتظار انهيار النظام فحسب، بل حتّى تتطلّع -فيما يشبه مسلسل Designated Survivor الذي يُعرض على شبكة نتفليكس- إلى تسريع عملية زعزعة الاستقرار وتساعد على ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: سكسونيا اليمين المتطرف.. حضن النازيين الجدد المشتعل

اشتباكات في الشوارع

بعيدًا عن ملاجئ الإيواء، فإنّ الجبهة الثانية "للمعارضة الشعبية" في فكر بيرون هوكه قد أفصحت عن نفسها علنًا في شوارع مدينة كيمنتس. فعلى غرار احتجاجات حركة بيجيدا، ليس هناك طابع مميَّز واضح للتفرقة بين أصحاب الهويّة اليمينيّة المتطرّفة. فمنهم على سبيل المثال مجموعة تُعرف باسم "أنصار الرايخ" (Reichsbürger) (وهم فئة من الأشخاص يرفضون شرعية الجمهوريّة الفيدرالية القائمة حاليًا، ويدّعون أنّ "الرايخ الألمانيّ" لا يزال موجودًا، وهم يشبهون بشكل ما "المواطنين ذوي السيادة" (sovereign citizens) في الولايات المتحدة الأمريكيّة)، وكذلك أعضاء "حركة الهويّة" (Identitarian Movement) المنتمية إلى "اليمين الجديد"، بالإضافة إلى النازيين الجدد المتصلّبين؛ وجميعهم انضموا إلى حشد ما يُطلَق عليه "المواطنين المعنيّين". ويلعب مثيرو الشغب النازيّون من لاعبي كرة القدم ومحترفي الفنون القتاليّة دورًا كبيرًا في منح المحتجّين الآخَرين الشعورَ بالأمان (كما يفعلون في مسيرات حركة بيجيدا). هؤلاء الساعون إلى العنف، والذين مرنوا على خوض المعارك والمناوَشات، يشكلون -بلا شكّ- تهديدًا جسديًّا خطيرًا.

وبالفعل، أثبَت هؤلاء الغوغائيّون تبنّيهم أقصى درجات العنف. فخلال حرب يوغوسلافيا، عندما أراد القوميّون الصرب تشكيلَ جيشٍ قويّ من المرتزقة، استهدفوا تجنيدَ المشاغبين والدهماء من مشجعي نادي "ريد ستار بلغراد" لكرة القدم. وقد كان من بين هؤلاء المرتزقة مسلّحين ألمان مثل تورستن هايس، أحد النازيّين الجدد ذوي التأثير. يعمل هايس موظّفًا بفرع الحزب الوطني الديمقراطي (NPD) في ولاية ساكسونيا السفلَى، وهو حزب النازيين الجدد في ألمانيا. وهو أيضًا ناشر مجلة NPD التابعة للحزب، والتي يُقال أنّ بيرون هوكه قد نشر فيها بعض المقالات تحت اسم مُستعار.

بعد أيّام قليلة من خفوت الصخب المُثار في كيمنتس، صبَّ بيرون هوكه مزيدًا من الزيت على النار بدعوتِه إلى تنظيم مسيرة صامتة في أرجاء المدينة في أوّل سبتمبر/أيلول الجاري. فقد دعا هوكه عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ المحتجّين إلى التحلّي بمظهر أكثر وقارًا (بالامتناع عن مقاطعة الخطب، وحظر الهتافات أو اللافتات، بل وحتى الامتناع عن التدخين). إلا أنّ ما كانت المسيرة تمثّله هو إشارة أخرى إلى مدى قوة اليمين. فللمرّة الأولى، اجتمعت أطياف اليمين المتطرّف، مثل حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحركة بيجيدا، كتفًا لكتف في مسيرة موحّدة.

تجابِه هذه الحشودُ "اليسارَ" بما قد أصبح -للأسف- مشهدًا مألوفًا بشكل مضطرد. ففي مدن جمهوريّة ألمانيا الشرقيّة السابقة، مثل مدينة كيمنتس، تفوق حشود اليمينيّين أعدادَ حشود المتظاهرين المناهضين للفاشيّة بمقدار الضعف على أقلّ تقدير. وهو الأمر المناقض لمدن أخرى مثل برلين، حيث تُقابَل مظاهرات اليمين المتطرّف عادةً بحشودٍ هائلة من المناهضين لهم، والذين بإمكانهم أن يَغمروهم عددًا ويذلّوهم سياسيًّا.

يجد اليسارُ نفسَه الآن في موقفٍ حرج. إنّه من الصواب انتقاد أفعال الشرطة والقضاء؛ ولكن سنضطر -بشكل متزايد- إلى الاعتماد عليهم لحماية رفاقنا في مناطق مثل كيمنتس. لا بد من كبح جماح النازيّين. ويتعيّن علينا تسييس مطالب التنفيذ الكامل للقانون لإزاحة هؤلاء المتعصّبين العنيفين، بما في ذلك مَن بِداخل أجهزة الدولة نفسها منهم. ما لم نفعل ذلك، فنحن نخاطِر بمواجهة "الجبهة الثالثة" لهوكه، وأنْ يصبح مسؤولو الأمن بالفعل جزءًا من المعارضة اليمينيّة المتطرِّفة. وإذا حدث ذلك، فإنّ العالم القاتم الذي تتصوّره منتديات اليمين المتطرّف الألمانيّ على الإنترنت سوف يكون حقيقةً مريرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشعبوية في أوروبا.. تيار يجرف حتى الأحزاب "المعتدلة"

الديمقراطية..على حافة الهاوية