25-يوليو-2018

مي سكاف، خلال مشاركتها في العرض التفاعلي "في العتمة المبهرة"، باريس 2017

لطالما سحرنا الممثلون على شاشة التلفاز، كما لو كانوا ضيوفًا خفيفي الظل مروا على حين غرة. أنيقون، جميلون، صادقون.. إلى الدرجة التي تجعل البعض منا ينسى أسماءهم ليتذكر أسماء الشخصيات التي تقمصوها.

محظوظون هم الممثلون في بلادنا، يسخرون من الموظفين الحكوميين ورجال الأمن بغبطة المتشفي، دون أن تستدعيهم الأفرع الأمنية إلى بيوت خالاتهم أو عماتهم لتعمل لهم اللازم. أبطال على الشاشة بسطاء في الحياة، مع ذلك لا نتوقّف عن التمني بأن يفعلوا، وأن يقولوا عنا ما نرغب في وجوه مستبدينا كما لو أن الحياة اليومية حلم.

باغتت السيدة مي سكاف الضابط المسؤول بمطلبها: "أما آن له أن يرحل". كما لو كان الأمر مشهدًا غرائبيًا من فيلم سينمائي

ما كان حلمًا صار حقيقية، ففي شهر آذار/مارس، تجرأت الممثلة الراحلة مي سكاف، بصحبة عدد من النشطاء السياسيين، على الاحتجاج بشكل علني. الأمر الذي قاد إلى اعتقالهم. مطالب مي تتلخّص في جملة كتبتها مرة: "لا أريد لحافظ بشار الأسد أن يحكم ابني".

اقرأ/ي أيضًا: إلى مي سكاف

في ذلك المبنى الأمني، باغتت السيدة مي سكاف الضابط المسؤول بمطلبها: "أما آن له أن يرحل". كما لو كان الأمر مشهدًا غرائبيًا من فيلم سينمائي. لم يصدق الضابط ما سمع، إذ أنه لأول مرة يتجرأ مواطن سوري بالطلب من رئيس الجمهورية بالتنحي عن السلطة، في حضرة وكنف السلطة ذاتها دون مواربة أو لف ولا دوران. الأمر الذي لم يجد له الضابط من تفسير، سوى رده إلى نوع من الجنون.

ما كان جنونًا صار حقيقة، والحقيقية التي لا لَبْس فيها أنه، بدئًا من عام 2011، انخرط جزء كبير من الشعب السوري في الاحتجاجات ضد حكم بشار الأسد، الذي اعتبرها مؤامرة كونية تستهدف النيل من دوره الممانع. فيما اعتبرتها مي سكاف ثورة من أجل الحرية والكرامة، لهذا كتبت قبل رحيلها بليلة واحدة: "لن أفقد الأمل.. لن أفقد الأمل.. إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد".

آثار موت سكاف على الضفة الأخرى من الوطن السوري المنقسم على نفسه، نتيجة إصرار السلطة في سوريا على تبني خيار المواجهة الدموية بدلًا من الحل السياسي، موجةً فرح هستيرية عند جمهور الموالاة، تخللتها كل أنواع اللعنات التي يحفل بها قاموس مناصري سلطة استبدادية ضد معارضيهم، لم يعكر صفوها سوى بوست التعزية المقتضب الذي نشرته الممثلة السورية أمل عرفة المحسوبة على طرف الموالاة: "مي سكاف.. عزائي الشديد.. الله يرحمها.. أمل عرفة - دمشق".

بكت أمل عرفة زميلتها السابقة بدافع نبيل هو "العيش والملح"، المقابل اللفظي لكلمة إنسان. كما لو أنها تعتذر مسبقًا من جمهورها الشامت الذي يرفض الاعتراف بالآخر المختلف كإنسان. لم يتأخر ظن أمل بجمهورها، الذي وصفها بالخائنة. حيث كتب أحدهم معلقًا: "يا امل عرفة!؟ تعزية من يدعم المرتزقة والمجرمين أو مجاملتهم أو الاستعانة بهم (بلا ضرورة ملحة) جريمة". في حين أضاف آخر: "مستغرب من يلي عم يشتغلوا بالوسط الاعلامي انو يقولوا ع وحدة متل مي اسكاف وسعرها بسعر أبو بكر البغدادي والجولاني وعرعور.. الله يرحمها".

في لمحة بصر شعرت أمل بأنها مهددة، وهو نوع من التهديد الجدي الذي يستهدف حياة المرء، الذي وجد نفسه وجهًا لوجه أمام قاتله، فلا يجد أمامه من سبيل سوى الاعتماد على غريرة البقاء، الذي تشير إليه بالهروب من وجهه عله ينجو: "سأقفل صفحتي التي لا تتسع لحقد. الجراح لا زالت ساخنة. قلبي مملوء بالحزن علينا. راجعوا صفحتي جيدا ومنشوراتي القديمة. كما هو مملوء بخيبة ممن شتموني ومنذ أيام بعض منهم كان يكتب بي قصائد شعر.. لا تعليق.. ترحمي على مي سكاف فقط من باب الزمالة القديمة وليس دفاعًا لا عن مواقفها ولا آرائها".

تفكر أمل بالهروب خوفا من الخطر الذي يتهدها عندما تشعر بإصرار القاتل على ترصدها. تقف متوسلة لتشرح له سوء الفهم. فهي هي لم تبدل موقعها ولم تنحاز إلا إلى الجانب الصائب من المعادلة أو التاريخ أي الولاء للنظام "راجعوا صفحتي جيدًا". في ظل هذا الحشد الشعبي لافتراسها تتراجع نهائيا وكأنها تعتذر عن انصاتها لصوت الآدمي الذي دفعها للترحم على مي "ترحمي فقط كان من باب الزمالة القديمة".

بوست أمل التوضيحي الشكل، الاعتذاري المضمون، يفاخر بانتسابها إلى فئة الموالين للسلطة، الذين لا يصدقون وحسب كل المرويات التي ترويها السلطة عن نفسها، بل وفي الترويج لها أيضًا. ومع ذلك تبدو المسكينة عاجزة عن فهم السبب الذي يدفع مثل هذه السلطة الكلية القدرة لانتزاع إنسانيتها منها في جزئية صغيرة جدا مثل قول "الله يرحمها". كما إصرارها المستميت على انتزاع حقها في البكاء على من ترغب من الزملاء القدامى.

مسكينة هي أمل عرفة إلى حد الرثاء، في وقوعها في حبائل سلطها لا تعرفها على حقيقتها

ما تجهله أمل عرفة عن السلطة في سوريا هو طبيعتها المملوكية، التي لا تسمح لأحد أي كان بالخروج عن النسق الذي رسمته لمواليها أو محكوميها على حد سواء، والمتمثل بالطاعة العمياء لأوامرها. الراحلة مي في عرف السلطة ليست معارضة، لأن السلطة الحالية ليست سلطة عقد اجتماعي بين حاكم ومحكوم، بل هي نوع من السلطة المملوكية أو السلطانية التي تستمد شرعيتها من قدرتها في السيطرة على البلاد والعباد بالقوة العارية، التي مكنتها من التعامل مع المحكومين بنفس الطريقة التي تتعامل بها مع الأشياء. الناس وفق السلطة السورية عبيد حقيقيون، لا يتمتعون بأية حقوق سياسية أو إنسانية. التعريف الحقوقي للفرد المعارض للسلطة في سوريا هو متمرد، أي خائن. وكل خائن رهن بمشيئة سيده الذي لا يجد حرجًا بقتله بالكيماوي أو البراميل المتفجرة.

اقرأ/ي أيضًا: مي سكاف.. جاءت ورحلت لتكون صهيل الجهات

مسكينة هي أمل عرفة إلى حد الرثاء، في وقوعها في حبائل سلطة لا تعرفها على حقيقتها، التي تجعل من كل خارج على سلطتها متمردًا، وكل متعاطف مع متمرد متمردًا مثله، حتى لو جاء ذلك التعاطف من باب الخبز والملح، أو عدم الجواز الشماتة في الميت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معرض دمشق الدولي.. تجميل إجرام الأسد بفنانين انتهت صلاحيتهم

أبو شاور وأبو خالد.. في القصر الجمهوري