20-ديسمبر-2018

تاتشر في ضيافة ريغان مع كلبه في حديقة البيت الأبيض الخلفية (بيثمان/Getty)

شهدت ثمانينات القرن العشرين عقدًا اقتصادية متفاقمة وسمت مشهد السوق العالمي. كما تغلغلت مفاعيل هذه الأزمة إلى المستويات الهيكلية محليًا في عشرات الدول. ما أفضى لقفزة أو نقطة تحول اقتصادية، ليست سوقية فقط، إنما سوسيو-اقتصادية بطابعها، يمكن توصيفها بنقطة التحول النيوليبرالي. أتت هذه النقطة بتكثيف كبح التدخل الدولتي المباشر في السوق لصالح المزيد من "تحرير" السوق وتعميم الخصخصة، حتى ضمن القطاعات السيادية، كالصناعات الحربية والطاقية والخدمية المتعلقة بالصحة والتعليم.

تنازع الدول نيابة عن رأس المال في السوق المعولم لا يفضي إلى انتزاع أوضاع أفضل تنعكس على معاش الشعوب، بقدر ما يثقل كاهل الطبقة العاملة ويذيب الطبقة الوسطى

ليس بعيدًا عن نقطة التحول الثمانينية، عرف مطلع القرن 21 موجة شبيهة من التحول الاقتصادي عالميًا. لكن التحول في هذه الموجة أتى بتغيرات أكثر حدة من سابقتها. خصخصة أوسع، ومصفوفة معكوسة من تدخل السوق في الدولة، بعد أن توقفت الدولة عن التدخل سابقًا، عدا عن إمبريالية أمريكية أعتى أسس لها بيل كلينتون ليقودها جورج بوش الابن في كل من أفغانستان والعراق.  

اقرأ/ي أيضًا: الإمبريالية وسوق العالم.. الوحش الذي "يداعبنا"

من هنا تتبدى أهمية الاستفسار عن الرابط بين التجذر النيوليبرالي وبين طرفي مفرزاته، أو نسختيه، الانعزالية والعولمية. إذ رغم اتساع التصنيفات والتحليلات المدرسية إلا أن طبائع النيوليبرالية أو نحلها يمكن أن تختصر إلى أنموذجين. أولهما، الأنموذج الكوزموبوليتاني الأوروبي. أي صنيعة السوق الأوروبي المشترك وعمليات إدماج الاقتصاديات التي تصاعدت بعد صدمة فولكر 1979 وتحرير الدولار الذي تصاعد خلال ثمانينات وتسعينات القرن العشرين.  مع ملاحظة أن الأنموذج الأوروبي لم يأت بدوره من باب المصادفة وفق ما اشتهى النموذج الاقتصادي الألماني. بينما ثاني الأنموذجين يشخص في الحالة الأنجلوأمريكية الانعزالية التي ابتدعتها مارغريت تاتشر ورونالد ريغان في الثمانينات. 

من باب التفريق، لا يمكن إنكار أن أثر الأنموذج الأوروبي اجتماعيًا، على كارثيته بدلائل حالة اليونان أوروبيًا وانتفاضة السترات الصفراء الفرنسية كذلك، يبقى في إطار أقل توحشًا على المدى القصير والمتوسط مما للأنموذج الانعزالي الذي يلعب دور المنشار حرفيًا، فهو بطبيعته عدائي على المستويين، داخل الحدود القومية وخارجها وسريع في توليد الآثار. كما يضمن الأنموذج الأوروبي تدفقًا أكثر سلاسة لرأس المال وعمليات إعادة إنتاجه بين أسواق متعددة، ويتيح بالحد الأدنى مستويات حقوقية، على تدنيها، إلا أنها أعلى نسبيًا من تلك التي للأنموذج الأنجلوأمريكي.

أكثر ما مورس على ضفتي النيوليبرالية هو الخديعة حرفيًا. الخديعة لحقوق الجمهور ومستوى معيشته، والالتفاف على كل المنجزات الحقوقية لمن يعملون كي يأكلوا. إذ أن شعار "سياسة صديقة للأعمال" المبتكر من طرف تاتشر-ريغان، ما هو إلا الطلقة الأخيرة على ممكنات دولة الرفاه واللغم الأكبر لتبديد قوة العمال ككتلة اجتماعية ونفي ممكنات الحركة الاجتماعية الفاعلة.

أما على صعيد ما هو خارج الحدود القومية، أي السوق العالمي، أو العالم برمته للدقة. فللأنموذج الانعزالي من النيوليبرالية فعل أخطر بمراحل من ذلك الذي للأنموذج الكوزمبوليتاني. مع عدم إمكان نفي أن داخل الولايات المتحدة مثلًا تيارات تتبنى الطبعة الكوزمبوليتانية من النيوليبرالية، إلا أن الهيمنة كانت دومًا لصالح التيار الانعزالي، الذي أتى النيوليبرالية من باب إمبريالي بالضرورة. وهو مشكل أساسًا من الصقور الجمهوريين والمحافظين الجدد.

أكثر ما مورس على ضفتي النيوليبرالية هو الخديعة حرفيًا لحقوق الجمهور ومستوى معيشته، والالتفاف على كل المنجزات الحقوقية لمن يعملون كي يأكلون

لا يمكن الادعاء أن لدى هؤلاء المحافظين الجدد إشكالًا جذريًا مع العولمة، إنما هم يعرضون لأنموذج أكثر مركزية إمبريالية، صلب اهتماماته الموارد قبل الأسواق. بالطبع لا يأبى هؤلاء الركون إلى "عضلات" واشنطن في العالم لفرض ترتيبات تتقاطع مع هذا التصور. الذي أمسى خلال السنوات الأخيرة أكثر وضوحًا بأعراض إشكالاته البنيوية، دونالد ترامب في منازلة الصين ومغازلتها، وستيف بانون في "أمميته" الفاشية التي عممها أوروبيًا وما زال.

اقرأ/ي أيضًا: مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل

بينما في حالات الدول الأخرى خارج السوق الأوربي المشترك والولايات المتحدة، أتت الصورة هجينة أكثر. بمعنى التنويع النيوليبرالي بين الانعزالية والعولمية. محدد أساسي في هذا التبني الهجين كان طبيعة الظروف الموضوعية الفاعلة. خاصة توفر تكتل إقليمي من عدمه. من هنا يمكن فهم جانب من جوانب التهافت المتبادل بشأن تطبيع العلاقات الكامل والعلني الذي يشتغل عليه بين الرياض وأبوظبي والبحرين ومسقط وتل أبيب مثلًا. من باب الحاجة النيوليبرالية لهذه الاقتصاديات الريعية، النفط خليجيًا، والكيانية الوظيفية الإمبريالية إسرائيليًا وما توظفه من استعمار استيطاني واحتلال عسكري وفصل عنصري بحق الفلسطينيين. لتتضح الصورة التي تنشدها النيوليبرالية بنسختيها للسوق العالمي، ليس أقل من حلبة صراع واحتراب تقوده وتخوضه الدول  لصالح حضور وهيمنة علامات تجارية بعينها دون أخرى. أهلًا في ملعب CEO النفط والسلاح والذكاء الاصطناعي والعقاقير.

وسط كل التمويه النيوليبرالي تجد الدول الصغيرة والاقتصادات الناشئة نفسها أمام معضلة الذهاب بمنحى الانعزالية، وهذا لا يعني بالضرورة أنها لو ذهبت بمنحى العولمية لكان الحال أجمل. لكن الالتفاتة الهامة، خاصة لشعوب بحال ناس المنطقة العربية، بكردها وعربها وأمازيغها، وكل ما شكلت تجارب الجماعات البشرية من هويات. كما هي هامة أيضًا للشعوب التي دفعت الأثمان الأبهظ لهيمنة النموذج الألماني على الأنموذج الأوروبي عبر هيكليات بروكسل كالشعب اليوناني والبرتغالي وأبناه الهامش حتى في بروكسل نفسها وأبناء الجوع في فرنسا وخلافها. إن حالة الانعزالية التي يمكن توصيفها بالنيومركنتيلية تحت مظلة النيوليبرالية، تقود إلى حالة من التجريف الاجتماعي معيشيًا وحقوقيًا. أي أن تنازع الدول نيابة عن رأس المال في السوق المعولم لا يفضي إلى انتزاع أوضاع أفضل تنعكس على معاش الشعوب، بقدر ما يثقل كاهل الطبقة العاملة ويجردها من المكتسبات النقابية بغير انقطاع كما يذيب الطبقة الوسطى، خاصة أن الحالة الانعزالية، والبريكست خاصة تيريزا ماي خير تمثيل، تفرض إعادة هيكلة شديدة القسوة والرجعية على المستوى المحلي، ترفع الضرائب، وتقنن الخدمات الأساسية، كما تخفض من الحد الأدنى للأجور بينما ترفع نفقات المعيشة الأساسية وبلا أدنى شك تذهب مذهب السياسات البوليسية أمام أي عقبات احتجاجية، وهذه في ذات الوقت وصفة صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي الدائمة، لكن بوتيرة تبدو أشد بطئًا من تلك الانعزالية الواضحة. هذا التجريف كله، لا يختص بالانعزالية دون العولمية من النيوليبرالية، إنما هو أسرع وأكثر وضوحًا في الحالة الأولى، في حين أن المعطيات النهائية على المديات الطويلة تقود إلى ذات الأعراض كون العدوى واحدة في منشأها ومبتغاها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الدولة العميقة.. "مؤامرة" بلا متآمرين

المانيفستو في ضيافة القرن 21