25-أغسطس-2016

غرافيتي في القاهرة

اسمه منتصر فهمي عبد السلام، الشهرة "مونتي"، المهنة رجل أعمال.. سيرة حياته "المريبة" وضعها الروائي المصري عمرو كمال حمودة في رواية "السمسار" (دار الثقافة الجديدة، 2016)، ويقول متابعون إنها، في الأصل، سيرة ذاتية لحسين سالم، رجل الأعمال المصري الهارب إلى إسبانيا.

رواية "السمسار" في الأصل سيرة ذاتية لحسين سالم، رجل الأعمال المصري الهارب إلى إسبانيا

"السمسار" وصف دقيق لمهنة "مونتي" الأصلية منذ أن كان طفلًا يبتز زملاءه في المدرسة، ثم طالبًا في الجامعة دخل في علاقة صداقة مع سمسار بورصة إيطالي يدعى "روبيرتو كراسو"، وباع أسهم "آل هيكل" في البورصة بمكاسب خيالية بعد أن كانت العائلة مرعوبة من خسارة أسهمها، وهبوط سعرها لو انتشر خبر البيع، وحصل على خمسة آلاف جنيه كانت مبلغًا معتبرًا بحسابات ذلك الوقت، ومن هنا بدأت رحلة "منتصر" مع الثروة والسلطة.

اقرأ/ أيضًا: كيم إكلين: الناس يؤكدون أنفسهم عبر رواية القصص

لم يضع المبلغ الضخم في حسابه البنكي حتى لا يسأل عن مصدره، وتعلّم المناورات منذ اليوم الأول، لأن راتبه لا يسمح له بادخار ألف جنيه حتى.. فاحتفظ بها في حقيبة "تحت البلاطة" بمنزل والدته.

منذ السطور الأولى في الرواية، بداية الخمسينيات، يلعب "كمال" على وتر "السمسار"، يصيغ تفاصيل وحكايات شخصية تؤكد أن "مونتي" لم يكتسب صفة السمسرة إنما كانت تجري في دمه بالفطرة: "فين الجزمة الشمواه؟ تلفت في أرجاء الغرفة مفتشًا حتى وجدها وسدها برفق فى الجانب الأيمن من قاع شنطة السفر، كانت نصيحة من زميل.. هتكسب أضعاف ثمنه لما تبيعه فى السوق السودا فى موسكو".

لا يترك "منتصر" أي مكسب يمرّ أمامه دون أن يساوم على حصة منه، يدوِّن أي تفصيلة في "نوت" يعتبرها جزءًا من يديه، تسيطر عليه نفسيّة القواد فلا تفوته فرصة لبناء علاقات شخصيّة مع علية القوم، أو أهل الوسط، وعمله في بداية حياته سكرتيرًا لصندوق صادرات المنسوجات منحه فرصة ذهبية لبناء شبكة علاقات مع المجتمع بجميع درجاته: الساقطات والعاهرات والخادمات والعمال، والشيوخ، وأصحاب المشروعات الصغيرة، ورجال الأعمال.. وهو ما منحه القدرة على توفيق أوضاع الجميع.. من يبحث عن الإبرة سيجدها عند منتصر فهمي عبد السلام، ومن يريد الصاروخ سيجده عنده أيضًا.. ابتسم.. أنت في حضرة "مونتي". 

خلال زيارة موسكو، التي شهدت واقعة "الجزمة الشمواه"، كان "منتصر" عضو الوفد الاقتصادي المصري للاتحاد السوفيتي، وبترشيح من صديق مصلحة عرفه لتسهيل أموره، عيَّنته المخابرات بالفروع الخارجية لشركة "العروبة للتصدير والاستيراد"، وهي إحدى الشركات التي يخفي الجهاز السيادي أعماله وراءها خارج مصر.

رواية "السمسار" وصف دقيق لمهنة "مونتي" الأصلية منذ كان طفلًا يبتز زملاءه في المدرسة

يدخل "منتصر" في علاقات متشابكة، يدخل عش العنكبوت، ويحاول أن ينسج عشّه الخاص، يسافر إلى الجزائر والسودان وسوريا والعراق للتجارة، ويكسب صداقات جديدة بالهدايا حتى أصبح مديرًا لمركز تجاري بالمغرب، وهناك يدير شبكة بيزنس وسمسرة ضخمة محفوفة بالألغام، ومغلفة بالمؤامرات.

اقرأ/ أيضًا: الوجه وأنطولوجيا الغيرية عند إيمانويل ليفيناس

ينتقل "منتصر" إلى العراق، ويقع في فخ علاقة مشبوهة مع زوج ابنة الرئيس العراقي، فيدفع زوجته إلى التقرّب إلى ابنة الرئيس، ويدعوه إلى زيارة القاهرة، حيث الليالي الحمراء، التي تم تصويرها كل ليلة مع عاهرة مختلفة حتى أصبح جاهزًا للركوع منعًا للفضيحة، فركع ومنح "منتصر" وكالة شركة النصر لصناعة الأسمنت، وشركة مقاولات مشتركة لإنشاء محطة كهرباء في "كركوك والأنبار".

مع وقوع الانقلاب العسكري في العراق، تزول شبكة علاقات منتصر، ويهرب من "بغداد".. ويتحول إلى عاطل.. بلا عمل، وعمولة، ولا سمسرة، ويعود إلى نقطة النور مع "نكسة 67" بمجموعة شركات تابعة لـ"المخابرات" تتعثر بعد رحيل "عبد الناصر" وتولي أنور السادات الحكم، ولأنه "قط سمين" بسبع أرواح يتم انتدابه للعمل في إمارة خليجية، وبدأ مدّ أسلاكه الشائكة تحت الأرض حتى وصلت إلى أغلب جهات الدولة، التي لا تبدأ من الأمن ولا تنتهي بالمخابرات ليبدأ أخطر مرحلة في حياته.. تجارة السلاح.

ينفح "منتصر" رؤساء دول عمولات لكي يسمحوا بتمرير شحنة سلاح، فالدنيا بالنسبة له لم تعد في بساطة موظف جمارك أو مندوب شركة يمكن أن يسترضيه بهدية، فكان أول المرتشين رئيسًا عربيًا طلب عشرة مليارات دولار.. لا ينتهي الأمر باستجواب في مجلس النواب حول الصفقة إنما بترضية جميع الأطراف: "حزب المعارضة 50 كرسيًا في البرلمان، والإخوان 30، وحصة من تصدير البترول المصري لرجل أعمال". 

القصة لم تبدأ، كل ما جرى كان خيوط تتشابك لتصل إلى ذروة الأحداث.. إسرائيل.

دفع "منتصر" كل ما يملك للتقرّب إلى "السادات"، واستولى على أراضي الدولة في عهده بوضع اليد، وسأله الرئيس في جلسة باستراحة القناطر: "يا مونتي.. إيه مشروعك اللي هنحط فيه فلوسنا السنة الجاية؟".. كان ينتظر السؤال، والإجابة جاهزة بدراسة الجدوى والميزانية وتخطيط مبدئي لما يمكن أن يجري: "فندق سياحى فى محمية رأس محمد منطقة ساحرة وبِكر، وتتفوق فى جمالها على إيلات والعقبة والسياح الإسرائيليين بيحبوها جدًا وحتى اليوم ما فيهاش فندق خمس نجوم".

يروي عمرو كمال حمودة في رواية "السمسار" كيف نجا كل السماسرة من الثورة

كانت ابتسامة الرئيس كفاية لـ"مونتي" لكي يكمل كلامه: "بس اقفل علينا الأرض وما حدش يحط رجله هناك إلا بمزاجنا لأن إحنا هنكون البايونيرز".

اقرأ/ أيضًا: الروائيون الجبناء ورواية "الحيط الحيط"

وبدأ طلباته: "عايز محافظ مطيع يسمع كلامي ويريحني في الإجراءات ويزيح الروتين وبعدين تعليمات من سيادتك علشان البنوك تديني التمويل اللازم بضمان الأرض فقط وبشروط مريحة وكله لصالح الوطن". 

وعلى نفس الحال، يدخل "منتصر" عصر حسني مبارك ملكًا، وشريكًا في الحكم بحصة ثابتة وهي شرم الشيخ، فلا رئيس هناك إلا هو، والمحافظ واحد من حاشيته وخدمه، الذين ينتظرون إشارة من أصابعه لكي يبدأ مشروعًا جديدًا أو يفرض ضريبة أخرى، كأنّ طلباته من "السادات" تحوَّلت إلى دستور. 

تبيّن الرواية أن هذا الوضع لم يضايق "مبارك" أبدًا، رغم أن "منتصر" صنع من سيناء مملكة خاصة أسوارها من ذهب لـ"البايونيرز"، والصفقات المحرَّمة، التي تطوي ظلها إليه قبل أن يذهب إليها، فكانت نهاية رواية "السمسار" بصفقة تصدير الغاز إلى إسرائيل بالاتفاق مع صديقة يهودية قديمة تدعى "سيلفيا" ساعدته فيما بعد في تهريب أمواله. 

"الجموع مصممة على الزحف من الميدان إلى قصر الرئاسة بعد الصلاة".. كانت هذه رسالة هاتفية إلى "منتصر" استلمها صباح "25 يناير" فأخذ سيارته إلى جولة بالمدينة الخالية من الأمن، وهو ما أكَّد له أن نظام "مبارك" زائل، فطار إلى شرم الشيخ، وعلى ظهر يخت خاص امتلأ بصناديق سبائك ذهبية وأموال بالجنيه المصري والدولار، عبر طابا إلى جزيرة "فرعون"، ودخل "تل أبيب".

وهكذا نجا كل السماسرة من الثورة. 

اقرأ/ أيضًا:

سيد القمني.. معركة أخرى مع "طيور الظلام"

فكرة توفيق الحكيم وأسلوب نجيب محفوظ