01-يناير-2023
الملك تشارلز يلتقي ميشيل أونيل

الملك تشارلز يلتقي ميشيل أونيل

الملكية جزء لا يتجزأ من هوية الوحدويين في إيرلندا الشمالية، كما يوضح مقال ديفيد ميتشل، الأستاذ المساعد في حل النزاعات والمصالحة في كلية ترينيتي في دبلن.


تضرب الملكية جذورها عميقًا في هوية وحدويي أولستر الأيرلندية، فلعل أحدًا لن يفلح في العثور على "وحدويّ جمهوريّ"، إذ ينحدر الكثير من الوحدويين من المستوطنين البروتستانت البريطانيين الذين استعمروا أيرلندا قبل أربعة قرونٍ مضت.

وقد شكّل الولاء للملكية سمةً جوهرية لأولئك الذين قاموا بالرحلة، واستند هذا الولاء إلى بروتستانتية التاج، التي وفّرت ملاذًا آمنًا في مواجهة كاثوليكية الأيرلنديين والكثير من الأوروبيين.

مع تنامي الهيمنة البريطانية على العالم، لم يتوانَ البروتستانت في أيرلندا عن المشاركة في ما آمنوا بأنه الازدهار والنفوذ اللذين قدّر الله للإمبراطورية أن تتمتع بهما

ومع تنامي الهيمنة البريطانية على العالم، لم يتوانَ البروتستانت في أيرلندا عن المشاركة في ما آمنوا بأنه الازدهار والنفوذ اللذين قدّر الله للإمبراطورية أن تتمتع بهما. وإبان تصاعد الوطنية الأيرلندية في أواخر القرن التاسع عشر، تمسّك البروتستانت بالوحدة مع بريطانيا خشية أن يؤولوا إلى الاضمحلال في حال نشوء دولة أيرلندية موحدة ومعادية لهم.

حتى يومنا هذا، وبخلاف الكثيرين في شتى أرجاء العالم ممن ينظرون إلى الملكية البريطانية بوصفها رمزًا للقمع والهيمنة، يعتبرها الوحدويون تجسيدًا لحريتهم السياسية والدينية.

بعد انفصال أيرلندا في العام 1921، وعلى حدّ وصف جيمس لوغلين في تأريخه للتاج البريطاني في أيرلندا: "أفضت الهواجس الوحدوية فيما يخص الأمن الدستوري إلى التشديد على دعم الهوية بالاعتماد على الملكية". وهكذا، استغلّت الحكومة الوحدوية الزيارات الملكية لإضفاء الشرعية على نظامها والتأكيد للشعب في الوطن وبريطانيا على موقعها المحق كجزء من المملكة المتحدة.

لقي الوحدويون دعمًا قويًا من الملكة أليزابيت، فخلال حفل تتويجها في العام 1952، ونزولًا عند رغبتها كما هو واضح، أنيطت مهام بارزة في مراسم الحفل للجنرالات الذين شاركوا في الحرب والأرستقراطيين والسياسيين من أولستر. وقامت الملكة بتكريم الكثير من الرعايا الأيرلنديين الشماليين، كما جرى منح بجعتين إلى مقاطعة بورتداون.

ولكن لوغلين يسوق الحجة بأن التأييد الملكي ما كان إلا ليذكي خيلاء الوحدويين تجاه الممارسات المجحفة لحكومتهم، التي اتسمت بكونها سياسات بالية لا تطاق في خضم عنف "المشاكل" التي انطلقت في البلاد نهاية ستينيات القرن العشرين.

شهد ذلك الصراع سجن أعداد كبيرة من عناصر القوات شبه العسكرية الوحدوية أو "الموالية" للعرش من قبل الدولة عينها التي كانوا يخوضون القتال في سبيلها. ونتيجةً لإخلاصهم للملكة دون حكومتها، تم وسمهم بـ: "متمردو الملكة"، وهو عنوان كتاب صدر في العام 1977 حول ولاء مقاطعة أولستر للعرش، كما جرى إطلاق الشعار الموالي: "الإخلاص للعرش جريمتهم الوحيدة".

بعد "المشاكل"

إبان السلام الذي تسيّد المشهد في أيرلندا الشمالية في أعقاب الاضطرابات، كان محتّمًا أن تدور رحى معارك ثقافية حول الرموز الملكية، فقد ساد اعتقادٌ لدى الوحدويين بأن الجمهوريين والوطنيين قد عقدوا العزم على إزالة جميع هذه الرموز كما حدث في جمهورية أيرلندا.

قدمت لجنة باتن بشأن إصلاح الشرطة في العام 1999 مقترحًا بإزالة عبارة "شرطة أولستر الملكية" فضلًا عن إزالة رمز التاج من شعار الشرطة، الأمر الذي قوبل بغضبٍ وحدوي عارم. وقد سعى الوطنيون إلى تفسير المساواة المنصوص عليها في اتفاق الجمعة العظيمة المبرم في العام 1998 بوصفها إنهاءً للهيمنة الثقافية البريطانية.

ولا يُشار اليوم إلى بروتستانتية التاج بوصفها أساسًا للولاء السياسي إلا من قبل قلّةٍ من الوحدويين. ولكن يقال أن الإيمان المسيحي للملكة أليزابيت، والذي أفصحت عنه بصورةٍ خاصة خلال خطابات عيد الميلاد، قد عزّز من جاذبيتها الشخصية في أوساط الوحدويين التي تحتفظ بإيمانها بالبروتستانتية الإنجيلية وتبجيلها للتقوى بصفةٍ عامة.

إبان السلام الذي تسيّد المشهد في أيرلندا الشمالية، كان محتّمًا أن تدور رحى معارك ثقافية حول الرموز الملكية، فقد ساد اعتقادٌ لدى الوحدويين بأن الجمهوريين والوطنيين عقدوا العزم على إزالة جميع هذه الرموز كما حدث في جمهورية أيرلندا

وبينما بدا التأثر العميق للمجتمع الوحدوي برحيل الملكة جليًا، غير أن تعهدات الملك تشارلز بمواصلة نهج والدته في هذا الصدد كفيل بإدخال الطمأنينة إلى أفئدة الملكيين والموالين في أيرلندا الشمالية. شأنها شأن شخصيات أخرى من الماضي، ستبقى الملكة في المخيال الوحدوي نموذجًا هاديًا فيما يخص الانتماء لبريطانيا.

بيد أن الملكية لن تقدّم نفسها كرمزٍ راسخٍ للاستمرارية، وإنما سوف تعكس الظروف السياسية المتغيرة. إذ يبدو الملك تشارلز مرتاحًا في جمهورية أيرلندا ولا يُظهر أي قلق حيال صعود حزب "شين فين" في الشمال (لا بل بدا أنه قدّم التهاني للحزب إذ أصبح الحزب الأكبر حين زار أيرلندا الشمالية في الأيام التي أعقبت وفاة الملكة).

وبينما يعاد عرض مشاهد الزيارة التاريخية التي قامت بها الملكة إلى أيرلندا في العام 2011 مرارًا وتكرارًا، يجري استذكار زيارة الملك تشارلز حين كان وليًا للعهد إلى مولاغمور في مقاطعة سليغو في العام 2015 على نحوٍ أقلّ تكرارًا ولكن ليس أقل أهمية. حينذاك، حضر تشارلز على شرف المصالحة وصافح القائد الجمهوري الأيرلندي، جيري آدامز، ومن ثمّ توجّه إلى الموقع الذي شهد مقتل خاله المقرّب، لورد مونتباتن، على يد الجيش الجمهوري الأيرلندي في العام 1979. وبعدئذٍ، أصبح يقوم بزيارات روتينية إلى الجمهورية.

في غضون ذلك، يأبى الوحدويون الإقرار بالهوية الأيرلندية للوطنيين في أيرلندا الشمالية كما يرفضون تصرّفهم كمندوبين للوزير الأول، ممثل حزب شين فين، بعد النصر الذي حققه الجمهوريون في انتخابات الجمعية التشريعية خلال شهر مايو/ أيار من العام الجاري. وقد أخذ موقفهم تجاه الحكومة الأيرلندية يزداد تصلّبًا منذ إبرام اتفاقية البريكست.

وإذ سيجري تنظيم استفتاء حول وحدة الجزيرة الأيرلندية مستقبلًا، ينبغي على الوحدويين الارتقاء بمستوى تأييد الناخبين للملكة المتحدة إلى مستواه الأقصى، الأمر الذي قد يقودهم إلى محاكاة السخاء والشهامة اللذين أظهرهما كل من ملكتهم الراحلة المحبوبة وخليفتها الملك تشارلز تجاه الأعداء التقليديين بوصفها الإستراتيجية السياسية الأكثر فعالية.