21-سبتمبر-2022
كتاب تحقيق العدالة الجنائية الدولية

كتاب تحقيق العدالة الجنائية الدولية

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تحقيق العدالة الجنائية الدولية: دراسة في نطاق القضاء الوطني لمحمد عدنان علي الزبر. يقع الكتاب في 376 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.

"إن العدالة الجنائية الدولية ليست مطلقة كعادتها"، فقد عجزت عن تلبية الطموح الإنساني وإنصاف المستضعفين في الأرض وجبر ضرر الضحايا ومعاقبة المتهمين بارتكاب جرائم دولية في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من ذلك، فإن القضاءين الوطني والدولي ما زالا يساهمان في تحقيق العدالة المذكورة كلما سنحت الفرصة وفرضت الإرادة الإنسانية كلمتها. إن معظم الأدبيات القانونية انشغلت في البحث والدراسة والحديث عن دور القضاء الدولي وحده في تحقيق العدالة الجنائية الدولية، حتى ساد مفهوم التلازم بين القانون الجنائي الدولي والقضاء الدولي، وانعكس بشكل كبير على مفهوم العدالة، كما غفلت هذه الأدبيات أو تغافلت عن دراسة دور القضاء الوطني في هذا الشأن، لذلك تحاول هذه الدراسة إعادة صوغ مفهوم العدالة بتعريفها وذكر خصائصها، ودراسة نطاقيها الشخصي والموضوعي، وتأكيد الدور الذي يمارسه القضاء الوطني في تحقيقها تطبيقًا وتعزيزًا.

"إن العدالة الجنائية الدولية ليست مطلقة كعادتها"، فقد عجزت عن تلبية الطموح الإنساني وإنصاف المستضعفين في الأرض وجبر ضرر الضحايا ومعاقبة المتهمين بارتكاب جرائم دولية في كثير من الأحيان

ما العدالة الجنائية الدولية؟

ليس في الإمكان تطبيق العدالة الجنائية الدولية ما لم تتوافر مقوماتها ويقوم على تنظيمها وتطبيقها قانونيًّا قضاءٌ مختص، إلا أن ضرورة توافر هذه المقومات والتلازم الحتمي بين القانون والقضاء والعدالة والتأثير المتبادل بينهم، لا يعني الاندماج إلى درجة الانصهار وفقدان أحد المقومات وجوده بصفته كيانًا مستقلًّا في حال غياب الآخر، ثم إن غياب القضاء لا يعني عدم وجود القاعدة القانونية المنظِّمة للعدالة وإلزاميتها، بل إن غياب القانون والقضاء معًا لا يعني غياب فكرة العدالة السائدة في ضمائر الناس، وإنْ تجاهَلَ المُشرِّع "الدولي" اعتمادها فترة من الزمن في قواعد قانونية ملزمة، وخصّها بالقضاء المعنيّ بتطبيقها، على الرغم من أن ردات فعل أفراد المجتمع واستياءهم نتيجة عدم مواكبة المُشرِّع الفكرةَ القانونية الجديدة السائدة في المجتمع المتعلقة بمفهوم العدالة، ستُلزم المُشرِّع مواكبتها عاجلًا أم آجلًا، وإلّا كان مصيره العُزلة عمَّن يحكمهم، ومن ثم فقدان الشرعية أو زعزعتها على أقل تقدير. لكن المُشرَّع يُبادر في بعض الأحيان إلى صوغ فكرة العدالة وتنظيم أحكامها من دون أن تكون لها سابقة، أو يَسعى إلى تطويرها تبعًا للظروف التي دفعته إلى ذلك، فيفرضها بقواعد قانونية ملزمة، اتفاقيةً كانت أو عُرفية.

ويترتب على ما تَقدم أمران؛ الأول يتعلّق بنشأة العدالة الجنائية الدولية ووجودها، والآخر يتعلّق بمفهومها. فعلى مستوى النشأة والوجود، فإن فكرة العدالة الجنائية الدولية سابقة لوجود القانون المعنيّ بها في حالة تراخي المُشرِّع الدولي في تنظيمها. وتؤكد الأدبيات القانونية أن فكرة العدالة الجنائية الدولية لم تكن وليدة اليوم أو الأمس القريب، وإنما أسهمت الحضارات الإنسانية على اختلاف أزمنتها في تزويد روافد العدالة الجنائية الدولية بالشعور الإنساني والأفكار المتطلعة لتحقيقها، حتى تعالت الأصوات المطالِبة بتقنين مبادئها وأحكامها ومحاكمة المعتدين عليها.

وكذلك الحال بالنسبة إلى القانون الجنائي الدولي، فإن القضاء لا يُعَدّ جزءًا من ماهيته، وإنما يُعَدّ عاملًا في تطبيقه، ومن ثم مستقلًا عنه؛ فالقاعدة القانونية الجنائية الدولية موجودة وملزمة، وإن غاب القضاء الدولي المعنيّ بتطبيقها.

وبذلك، فإن القاعدة القانونية الجنائية الدولية سابقة - من حيث نشأتها - لواقعة التأسيس لقضاء دولي بغية النظر في بعض الجرائم الدولية، وهو المتمثل في محكمتي نورمبرغ وطوكيو، وإن ساهمت هاتان المحكمتان في تطوير القانون المذكور وتعديل أحكامه بفضل نظامَيهما الأساسيَين، بعدِّ تلك القاعدة جزءًا من المنظومة القانونية الجنائية الدولية والتفسير الذي اعتمده قضاتها.

تطبيق العدالة الجنائية الدولية بوساطة القضاء الوطني

من خلال الرجوع إلى أعمال لجنة القانون الدولي في دورتها الثامنة والأربعين لسنة 1996، واستعراض مشروع مدونة الجرائم المخلّة بسلْم الإنسانية وأمنها في قراءته الثانية، نجد أن المادة الـ 8 من المشروع قد نصّت على ما يأتي: "مع عدم الإخلال باختصاص محكمة جنائية دولية، يجب على كل دولة طرف أن تتخذ ما يلزم من تدابير لتقرير اختصاصها بنظر الجرائم [...] - التي تدخل في اختصاص المدونة - بصرف النظر عن مكان ارتكابها أو القائم بارتكابها، ويكون الاختصاص بنظر الجريمة المبينة في المادة 16 - جريمة العدوان - لمحكمة جنائية دولية، بيد أنه ليس هناك ما يحول دون قيام الدولة المشار إليها في المادة 16 - الدولة المعتدية - بمحاكمة مواطنيها عن الجريمة المنصوص عليها في تلك المادة".

وجاء في تعليق لجنة القانون الدولي أن المادة المذكورة تنص على نظامين منفصلين للاختصاص القضائي؛ أحدهما معنيّ بالجرائم الدولية التي تدخل في اختصاص المدونة باستثناء جريمة العدوان، والآخر معنيّ بجريمة العدوان، فالأول يقرر الاختصاص المشترك للمحاكم الوطنية والمحكمة الجنائية الدولية، أما النظام الآخر فإنه يقرر الاختصاص المطلق لمحكمة جنائية دولية مع استثناء محدود متمثّل في السماح للقضاء الوطني للدولة المعتدية بمساءلة المتَّهمين بجريمة العدوان.

أما سبب اعتماد الاختصاص المشترك بين القضاء الوطني والقضاء الدولي للنظر في الجرائم الدولية، فهو أن لجنة القانون الدولي بنهجها هذا قد اعتمدت على مجموعة أسانيد؛ فبحسب اللجنة أن العالم لا يزال يعاني كثيرًا من تكرار ارتكاب أشد الجرائم جسامة بالنسبة إلى المجتمع الدولي بأكمله، فاعتمدت الدول منذ الحرب العالمية الثانية اتفاقيات متعددة الأطراف، في محاولة لمواجهة هذه الجرائم التي تتسم بجسامة خاصة. وتعتمد الاتفاقيات المعنية بتلك الجرائم وغيرها أو في جزء منها على الأقل، على الاختصاص الوطني لمحاكمة المجرمين ومعاقبتهم، وهو ما نجده من خلال الرجوع إلى عدد من الاتفاقيات الدولية التي تؤكد الاختصاص الوطني.

تعزيز العدالة الجنائية الدولية بوساطة القضاء الوطني

إن الدور الذي يضطلع به القضاء الوطني لا يقتصر على تطبيق العدالة الجنائية الدولية، وإنما يساهم في تعزيزها من خلال إضفاء بيئة دولية يسودها الحد من الإفلات من العقاب، أو ضياع الأدلة، ويتحقق ذلك من خلال ضبط المتَّهمين بارتكاب الجرائم الدولية إلى حين بتِّ أمرهم بمحاكمتهم أو إحالتهم إلى القضاء الدولي، أو تسليمهم إلى قضاء دولة أخرى، وتبادل المساعدات القانونية، وتعزيز عمل المحاكم الدولية التي منحها القانون الدولي أسبقية النظر في الجرائم الدولية.

إن الأحكام والممارسات التي تصدر عن القضاء الوطني إثر تطبيقه العدالة الجنائية الدولية، ستزود المنظومة القانونية الدولية المعنية بالعدالة بالأحكام والمبادئ، وهو ما سيؤدي إلى تضييق سعة الفراغ التشريعي الدولي المعني بالعدالة

إن الأحكام والممارسات التي تصدر عن القضاء الوطني إثر تطبيقه العدالة الجنائية الدولية، ستزود المنظومة القانونية الدولية المعنية بالعدالة بالأحكام والمبادئ، وهو ما سيؤدي إلى تضييق سعة الفراغ التشريعي الدولي المعني بالعدالة. وباستمرار هذا التطور والتعزيز تندفع عجلة العدالة نحو الاتساع في أحكامها ومبادئها القانونية، لتوفر مصدرًا غنيًّا ومغريًا لتدوينها باتفاقيات دولية شارعة يسودها الوضوح وتلبّي الطموح الإنساني، أو بعدِّها ممارسات دولية ارتقى بعضها إلى مستوى القواعد العرفية أو المبادئ القانونية، تستعين بها المحاكم الدولية عند تطبيق العدالة.

إن الفرضية التي تقوم عليها هذه الدراسة في معرض إظهار أهمية القضاء الوطني في تطبيق العدالة الجنائية الدولية وتعزيزها، لا تعني إغفال الدور الذي تساهم به السلطة التشريعية في كل دولة، ولا الدور الذي تساهم به قنوات السلطة التنفيذية ذات العلاقة، ولا سيما الدبلوماسية والعدلية، فضلًا عن الأمنية، التي بمجموعها تساهم في تحقيق الهدف المرجو من العدالة الجنائية الدولية.

ففي صدد الحديث عن التعاون الدولي بصفته صورة من صور تعزيز العدالة الجنائية الدولية، ونظرًا إلى تداخل الأدوار بين سلطات الدولة وقنواتها التنفيذية، فضلًا عن القضائية، نجد أن الاتفاقيات الدولية المعنية بالجرائم عمومًا، وفي إطار تنظيم ذلك التعاون، تخاطب الدولةَ من دون أن تحدد الجهة المعنية بالمخاطبة، لتترك لكل دولة سعة من الحرية في أن تنيط تلك المهمة بالجهة المختصة، بحسب ما يملي عليها نظامها القانوني والمركز الذي يمارسه القضاء فيها، ولا سيما في المرحلة التي تسبق مرحلة المحاكمة، التي تُعرف بمرحلة التحري وجمع الأدلة، فضلًا عن مرحلة التحقيق الابتدائي، وهي مرحلة لا تعرفها الدول التي تأخذ بالنظام الاتهامي للقضاء كما هي الحال بالنسبة إلى نظم القانون العام، بينما هي مرحلة ضرورية تعرفها الدول التي تأخذ بنظام التنقيب والتحرّي. ولا تغفلها أيضًا الدول التي تأخذ بالنظام المختلط، كما في نظم القانون المدني. وعلى العموم، فإن القضاء الوطني، أيًّا يكن مرجعه والنظام المعتمَد فيه، وإذا ما روعيت حين تشكيلِ محاكمِه متطلباتُ العدالة الجنائية الدولية ومقتضياتُها، من ضمانات وإجراءات قانونية سليمة، يُعَدّ في ذاته راعيَ الحقوق والحريات، والملجأ الآمِنَ للمتهم وضماناته القانونية، والفيصل في مدى مراعاة تطبيق القانون والإجراءات الجزائية التي يتوخى منها تحقيق العدالة لا غير، ابتداءً من ارتكاب الجريمة وكشفها وحتى المُحاكمة أو التسليم أو الإحالة.