25-أكتوبر-2018

من فيلم "وداعًا يا أولاد"

موسم جديد في "مؤسسة باربيكان" يحكي قصه الجيل الأخير من الجمهورية الاشتراكية السوفياتية من خلال عدسه من صناع السينما الرائدة. في هذا المقال المترجم عن الغارديان إطلالة بانورامية على تلك السينما وأبرز أعمالها وأعلامها.


"الشباب هم أملنا الأكبر، لكنهم يمثلون لنا مشكلة أيضًا". هكذا لخص مدير في أستوديو لإنتاج الأفلام في ليننغراد يسمى Lenfilm، المعضلة المستمرة التي واجهت الثقافة السوفيتية الرسمية. كيف يمكن لرابطة الشيوعيين الشباب (وهي على الورق "منظمة عامة"، لكنها في الواقع خاضعة بالكامل للقيادة العليا للحزب) حشد الجيل الشاب وتحريكه دون إذكاء الحماس السياسي الخاطئ فيهم؟ كانت السينما السوفيتية ـوهي شكل فني حديث له جاذبية خاصة في أعين شباب البلاد- طوال فترة وجودها مثالًا حيًا على وجهات النظر المتباينة تجاه الشباب. فقد تغير مصير هذه السينما بالتبعية، على النحو الذي تغيرت به الرؤى والسياسات العامة تجاههم.

كان سيرجي أيزنشتاين يبلغ من العمر 27 عامًا فقط، عند منحه فرصة تصوير فيلم "السفينة الحربية بوتمكين"

في السنوات الأولى بعد ثورة تشرين الأول/أكتوبر، نال النشاط الشبابي تشجيعًا قويًا في الواقع وفي الأفلام. كان سيرجي أيزنشتاين يبلغ من العمر 27 عامًا فقط، عند منحه فرصة تصوير فيلم "المدرعة بوتمكين" (Battleship Potemkin)، الذي يعرض قصة شاب فدائي يقود تمردًا بحريًا. الفيلم حصد شهرة عالمية. لكن الرؤية تجاه المشاركة السياسية للشباب والأطفال تغيرت بشكل حاد إبان حكم ستالين. تعرض  فيلم "مرج بيجن" (Bezhin Meadow) الذي يهاجم فيه صبي ذو شعر أشقر أشعث حياة القرية التقليدية، للمشاكل في آب/أغسطس عام 1936. حدث هذا بعد شهر من الحملة ضد علم نفس الأطفال، الذي اعتُبر في ذلك الوقت علمًا "منحرفًا"، وفي المرحلة التي أُدمجت فيها القيم الوطنية في المناهج الدراسية مجددًا.

اقرأ/ي أيضًا: "يوم أضعتُ ظلّي" لسؤدد كعدان.. الميتافور يقتل

تغيرت أستوديوهات إنتاج الأفلام السوفيتية أيضًا، إذ تحولت إلى عرض أفلام فنانين مخضرمين: الأسياد. في أواخر عقد الأربعينيات من القرن العشرين، توقفت صناعة الأفلام تقريبًا، حيث لم تُصنع سوى 8 أفلام فقط في جميع ربوع الاتحاد السوفيتي عام 1951. وتقريبًا، لم يتجه أحد من خريجي مدرسة السينما المملوكة للدولة، وهي معهد جيراسيموف للتصوير السينمائي (VGIK)، إلى صناعة الأفلام الطويلة (Feature films). بل عملوا بجهد كبير على إنتاج الوثائقيات، وأفلام الشأن العام، وأفلام المدارس. حتى أنه لم يكن مسموحًا لمعظمهم بالتصوير أثناء دراستهم بالكلية. بدلًا من ذلك، خط الطلبة الذين هم على مشارف التخرج رسومات للمشاهد وكتبوا مقتطفات لأفلام لن يتمكنوا يومًا من صناعتها.

تغير هذا المشهد جذريًا في عهد نيكيتا خروتشيف (Nikita Khrushchev). كان هدف الزعيم الرئيسي هو إعادة حشد وتعبئة القيم الشيوعية. إلا أن الإصلاحات السياسية والاجتماعية لذلك العهد أحدثت تحولًا في حياة الشباب ومنحتهم قدم السبق في أفرع الثقافات الفرعية والهامشية وكذلك في الأشكال المصرح بها للنشاطات الجماعية. جذب التوسع الجديد في صناعة السينما مئات من فناني السينما الجدد -كتاب السيناريو، ومنتجي التصوير والصوت، والمصممين، وكذلك المخرجين- إلى الأستوديوهات السوفيتية.

كان العديد من المستجَدين في قطاع السينما صغار السن نسبيًا بمتوسط أعمار يبلغ الـ 40 عامًا تقريبًا. وهو ما جعلهم أصغر بـ 20 عامًا على الأقل من أسياد السينما الناجين من عهد ستالين. مع ذلك لم تتأثر هذه السينما الشابة الجديدة بأي شكل من الأشكال بهذه الفجوة الجيلية. خدم بعض هؤلاء المستجدين على الجبهة في الحرب العالمية الثانية. وفقد العديد منهم آباءهم بسبب الإرهاب السياسي. غدا النضج المتسارع والتوقعات الجديدة سمة ذلك العصر. وأصبحت الأفلام التي تدور حول الشباب عصب الصناعة وغيرت اللغة السينمائية، وظهرت أنواع جديدة من الأشكال البشرية والإيماءات، وأنواع مختلفة من الخطابات العاطفية، وأساليب وطرق جديدة لحركة الكاميرات، لتلائم التركيز الجديد المنْصب على الشباب.

مثَّل عهد بريجينيف وفقًا لكلمات ميخائيل غورباتشيف "فترة ركود". لكن التركيز الجديد على مسألة الاستقرار جعل من الحراك والفوران الشبابي ذا أولوية متناقضة باعتباره ليس عرضًا من أعراض الفوضى والشذوذ الاجتماعي فقط، بل وسببًا لها أيضًا. اكتسب الانحراف الاجتماعي أهمية متزايدة في عقدي السبعينيات والثمانينيات أكثر منه في الخمسينيات والستينيات. من هذا المنظور، سرَّعت سياسة الغلاسنوست (سياسة الانفتاح والشفافية في أنشطة المؤسسات الحكومية) في عهد غورباتشوف من الرؤى المتحجرة للواقع السوفيتي ولم تخلقها.

وحتى وقت قريب لم تحظ الأفلام التي أُنتجت في العقد الأخير من عمر الاتحاد السوفيتي سوى باهتمام المتخصصين فقط. لكن هذا الحال بدأ بالتبدل. ففي وقت مبكر من هذا العام، قدمت سينما شارع ريجنت في لندن موسم "شباب في المسيرة" (Youth on the March!)، بالتعاون مع مؤسسة الفيلم الروسية "كلاسيكيات السينما" (Kino Klassika). قدم لنا هذا الموسم عرضًا مبهجًا لتسعة أفلام رائدة صنعها مخرجون شباب من الاتحاد السوفييتي خلال الخمسين عامًا الماضية، من بينها فيلم "الأوراق المتساقطة" (Falling Leaves) للمخرج أوتار ايوسيلياني (Otar Ioseliani)، وفيلم "مجابهات قصيرة" (Brief Encounters) للمخرجة كيرا موراتوفا (Kira Muratova)، وفيلم "هل من السهل أن تكون شابًا" (Is it Easy to be Young) للمخرج جوريس بودنكس (Juris Podnieks). وسوف الأسبوع تعرض ستة أفلام شبابية أخرى في مهرجان "الأجيال: سينما التغيير في روسيا" الذي تقيمه مؤسسة باربيكان بالتعاون مع سينما الشرق الجديد.

في بداية مسيرتها، واجهت المخرجة الروسية دينارا أسانوفا اتهامات بافتقادها للمهنية وبأساليب العمل الفوضوية

يعود تاريخ نصف الأفلام المعروضة في مهرجان باربيكان إلى حقبة ما بعد ستالين، وهو ما يجذب النظر إلى  موضعها المهم من عملية التحول السينمائي في تلك الفترة. تعرض في المهرجان أفلام ميخائيل كاليك (Mikhail Kalik) "شهادة حية على صداقة فترة المراهقة" و"وداعًا" و"فتية". ويعرض كذلك فيلم المخرجة دينارا أسانوفا (Dinara Asanova) اللاذع والشاعري لعام 1983، والذي يصور الحياة في معسكر عمل مخصص للمدانين صغار السن (الأحداث)  بعنوان "فتية أشداء".

اقرأ/ي أيضًا: 10 أفلام مصرية.. موسم سينمائي جديد؟

فيلم أسانوفا مثير للاهتمام بشكل خاص. كانت -مثل الشباب الذين تصورهم في فيلمها- شخصية هامشية، أولًا بصفتها مخرجة أنثى (إلى جانب موراتوفا، ولاريسا شيبيتكو، أي أنها واحدة من ثلاثة مخرجات فقط من الجيل الجديد اللواتي نلن الشهرة لقاء أعمالهن). ثانيًا بفضل أصولها القرغيزية، التي ساهمت في تثبيت وضعها بصفتها دخيلة وناشزة عن المشهد السينمائي، إذ لم يكن من بين المخرجين المقيمين في ليننغراد سوى مخرجين فقط من وسط آسيا. وكانت لها أيضًا روابط وثيقة مع الحراك الثقافي الهامشي (غير الرسمي) وشاركته همومه المتفاقمة إزاء مسائل الاحتقار والتجاهل.  

كرهت أسانوفا فئة "أفلام الأطفال". كتبت في مذكراتها قائلة "أردت أن أظهر عدم وجود أوجه متباينة للحقيقة تلائم الفئات العمرية المختلفة". تمخض هذا العزم على تجنب التفضل على الشباب وتدليلهم على الشاشة، عن أساليب عمل جديدة، كانت -بالمنظور السوفيتي- فريدة من نوعها. 

كل أفلام أسانوفا، ابتداءً من فيلهما الطويل الأول "جامعو الحطب لا يصابون بالصداع" (Woodpeckers Don’t Get Headaches)، صورت بطريقة ارتجالية، وهو ما مثل نهجًا فذًا وبطوليًا في ثقافة خضعت فيها النصوص السينمائية لسبع مراحل من القراءة المتمحصة، وأي حيود عن النصوص المتفق عليها قد يستثير الغضب والويلات. جعلت أسانوفا من كل مشهد طريقة لتأسيس تواصل إنساني وفكري مع كل الموجودين في موقع التصوير. كان لديها اهتمام بأفلام الشباب الغربية وطلبت من مجلس الدولة للأفلام منحها تصريحًا لعرض فيلمي "لو…" (If …) و"برتقالة آلية" (Clockwork Orange) على طاقم العمل في المراحل التي سبقت إنتاج فيلم "جامعو الحطب"، لكن طلبها هذا قوبل بالرفض.

في بداية مسيرتها، واجهت أسانوفا اتهامات بافتقادها للمهنية وبأساليب العمل الفوضوية. حين انتهى فيلمها جامعو الحطب، وبعد تعديلات كثيفة، صُنف في أفلام الدرجة الثالثة، وهو بمثابة "حظر ناعم" يحصر إمكانية عرض الفيلم في أندية السينما وفي دور العرض في المقاطعات البعيدة فقط.  لكن بحلول عقد الثمانينات، وبعد خمسة أفلام، أقنعت أسانوفا زملاءها بأساليب عملها وبموهبتها، وهو ما يفسر إقدام شركة Lenfilm على المخاطرة بإنتاج فيلم "فتية أشداء" في المقام الأول. تقول المحررة السينمائية فريزيتا غوكاسيان التي عملت مع أسانوفا  "نعلم أن هذا الفيلم يحمل حبكة ملتوية في أوله في نهايته كذلك". وبعين مفتوحة على الصعاب التي لا مناص منها، قررت إدارة الأستوديو الفنية دعمها حتى النهاية.

عندما عرض فيلم "فتية أشداء" على زملاء أسانوفا المقربين، عمهم صمت كامل. تأثر الناس إلى درجة أنهم لم يستطيعوا التعبير عن مشاعرهم بالكلمات. لكن المجلس الفني في Lenfilm، وهو الجهة الرئيسية المسؤولة عن الفحص والتدقيق في الشركة، أبدى اعتراضًا ساخطًا على الفيلم بسبب "تساهله الشديد" مع المجرمين الشباب. كانت هجمتان شهيرتان تورط فيها مراهقون من موسكو وليننغراد، خلفتا ورائهما عددًا من القتلى، قد أفزعت حراس القيم الأخلاقية. أصرت لجنة الدولة للتصوير السينمائي (Goskino) على تعديلات استغرقت طاقم العمل 100 يوم إضافية لإتمامها. في النهاية تمكن فيلم "فتية أشداء" من تجاوز مراحل التصديق الخاصة بالدولة والحزب. في العام 1985 نال الفيلم جائزة الدولة التقديرية، دلالة على تغير الأزمان.

بحلول ذلك الوقت، كانت أسانوفا قد وافتها المنية بعد أن بلغت 42 عامًا. كانت التكلفة البشرية مرتفعة وظالمة بالنسبة لها. كتبت في مذكراتها قائلة "السينما هي الدم الذي أمتصه من حياة الناس الآخرين". انتهى الحال ببعض الشباب الذين عملت معهم أسانوفا، ومن بينهم ابنها أنفار، إلى الخسارة الكاملة، بعد أن علقوا بين رؤى أسانوفا المثالية عن العملية الإبداعية وجمود الأعراف الاجتماعية في الفترة الأخيرة من عمر الاتحاد السوفيتي. لكن فيلم "فتية أشداء" يطرح أسئلة مهمة، كثيرًا ما لاقت تجاهلًا في روسيا، بل وفي أي مجتمع آخر اليوم.

يردد فيلم "فتية أشداء" أصداء أشهر فيلم سوفيتي صريح وثوري عن المدانين الشباب للمخرج نيكولاي إيك الكلاسيكي "الطريق إلى الحياة"

يردد فيلم "فتية أشداء" أصداء أشهر فيلم سوفيتي صريح وثوري عن المدانين الشباب للمخرج نيكولاي إيك الكلاسيكي "الطريق إلى الحياة" (Road Into Life) الذي عرض على التلفاز حين كان فيلم أسانوفا في مرحلة الإنتاج. لكن هذا الفيلم أثبت انتماءه لأفلام عصر ما بعد الاتحاد السوفيتي أكثر من الحقبة السوفيتية، باتباعه أسلوبًا وثائقيًا في عرض أحاديث شخصياته، وبالحبل الدقيق الذي يسير عليه بين العدمية والأمل. 

اقرأ/ي أيضًا: "أم العروسة".. رسائل موحية وأشياء مندثرة

أسهب المخرجون الرواد في الثلاثين سنة الأخيرة، ومن بينهم ألكسي بالابانوف (Aleksei Balabanov)، الذي يعرض مهرجان الأجيال جانبًا من أفلامه، وأندريه زفيجينتسيف (Andrey Zvyagintsev) في سرد العنف الذي يقع من قبل الشباب وعليهم. لكن من بين كل صناع الأفلام، كانت أسانوفا الأقرب إلى الشباب أنفسهم. كان فيلم "فتية أشداء" فيلمهم بقدر ما كان فيلمها. لا عجب أن أسانوفا تلقت مكالمة هاتفية بعد عرض الفيلم من فتاة شابة لم تلتق بها يومًا. قالت لها "اصنعي جزءًا آخر من فيلم "فتية أشداء" أرجوكِ. لكن هذه المرة سَمِّه فتيات قويات".

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "The First Man".. جاذبية الحلم والفضاء!

5 أدوار سينمائية دمّرت أجساد ممثليها