19-أكتوبر-2022
تشيخوف في غرافيتي

غرافيتي لـ تشيخوف

إذا أردت أن تخوض نقاشًا مع مثقفين في أحد مقاهيهم، وأن تحوز على إعجابهم، أو على الأقل أن تسلم من سخريتهم، فإياك.. إياك أن تذكر ماركيز ولو بكلمة واحدة. ببساطة لقد صار اسمًا قديمًا وعلامة على ذائقة بالية وقارئ عتيق غير مواكب.

أسماء أخرى للنسيان: خوان رولفو، إيزابيل الليندي، أنطونيو سكارميتا، برناردو اتشاغا، إدواردو غاليانو..

من الذي يصنع الموضة ويشيعها بين القراء؟ ولكن هذا السؤال يحيل إلى نظرية المؤامرة. لنقل إذًا: ما العوامل التي تساهم في شيوع موضة أدبية بين القراء في زمن ما؟

ميلان كونديرا؟ أجل بإمكانك أن تستعين به، ولكن لمرة واحدة فقط، فهذا اسم بين بين، يوشك أن يتقادم ولكنه لم يتقادم بعد.

سارتر.. كامو.. سيمون دي بوفوار؟ هل أنت مجنون؟! هذه موضة ذهبت مع "الشارلستون" وربما قبله؟

تولستوي، تورغنيف، غوركي، تشيخوف..؟ أنت تمزح طبعًا فهذه أسماء من ما قبل التاريخ.

من الذي يصنع الموضة ويشيعها بين القراء؟ ولكن هذا السؤال يحيل إلى نظرية المؤامرة. لنقل إذًا: ما العوامل التي تساهم في شيوع موضة أدبية بين القراء في زمن ما؟

الأيديولوجيا حاضرة طبعًا، فالاتحاد السوفييتي كان، ولعقود طويلة، قد جعل الأدب الروسي منشرًا بقوة في أوساطنا بفضل كتبه الرخيصة متقنة التجليد والطباعة..

وهناك أيضًا مواكبة الموضات السائدة في العالم، في الغرب تحديدًا، وإن بفارق عقدين أو ثلاثة عن توقيت بلدان المنشأ.. وهناك أخيرًا الجهود والخيارات الفردية: مترجم يكتشف اسمًا غربيًا ويترجم له عددًا من كتبه بصياغة متقنة وأسلوب جذاب، فتتلقفه دائرة القراء في مقهى المثقفين المركزي، ثم ينتشر بالعدوى إلى دوائر أخرى. في الثمانينات ترجم جورج طرابيشي عددًا وافرًا من كتب فرويد. الثمانينات لم تكن لحظة فرويد في أي مكان من العالم. ببساطة كانت فقط لحظة اكتشاف طرابيشي له. 

*

حتى أواخر الثمانينات كان طيف سارتر مخيمًا فوق رؤوس كتابنا. كان هؤلاء يكتبون من أجل "تحسين العالم"، تمامًا كما أوصى المعلم الفرنسي الكبير. قبل أن تهل التسعينات كانت الرؤية الماركسية قد تبخرت، وسارتر، الذي حاباها حينًا وعاداها حينًا واشترك معها دومًا في نظرية الالتزام، تبخر أيضًا..

لحسن الحظ سرعان ما اكتشفنا قارة بكاملها: خوان رولفو، أليخو كاربينتير، كورتاثار، أستورياس.. وعلى الأخص ماركيز. وعوضًا عن تحسين العالم رحنا نلهو مع فراشات صفراء سحرية، ونُطيّر فتيات جميلات، ونصغي لجدات خارقات، ونجري في أدغال كثيفة بين سحال ووحوش عجائبية، قبل أن نأخذ قيلولاتنا على أراجيح كولومبية..

وقبل هؤلاء وأولئك كنا نجعل من رواياتنا وقصصنا سجلات مدنية مليئة بتفاصيل الشخوص وعائلاتهم، تمامًا كما كان بلزاك يفعل في القرن التاسع عشر..

اليوم نعيش في فراغ، فما من طيف فوق رؤوسنا وما من نموذج محدد يقف أمامنا.. لا أحد يمارس علينا غواية النسخ والتقليد والاقتباس.

هل لأن العالم خلا من أسماء وتجارب أدبية جذابة مغوية؟ أم لأن أدبنا نضج وبات يشق دروبه بنفسه؟.

*

طه حسين: "لقد أحببت سوفوكل والجاحظ وأندريه جيد وأبو العلاء ونجيب محفوظ... لم أذكر لك اسم شكسبير، لأنني أسألك أين نضعه: هل هو كلاسيكي أم رومانتيكي أم واقعي؟ أجيبك إنه كل ذلك، لأنه فنان عظيم، أو هو فنان وكفى... الفن ليس كالأزياء ولا كالماكينات يتغير من عام إلى آخر. هناك فن أو لا فن، لا علاقة له بالزمن، فقد أراني معاصرًا لشكسبير حين يُقرأ علي أو حين استمع إليه في التمثيل، ولا أراني كذلك مع أحد أبناء جيلي أو جيلكم. الفن لا يعرف الزمان والمكان".

دلالات: