هناك حوالي 10 مليون مصري مصاب بالأمراض النفسية المختلفة، وفقًا لتقديرات رسمية. وفي ظل أوضاع اقتصادية متردية وتراجع أداء المستشفيات الحكومية في تقديم الخدمات الطبية، يصبح اللجوء إلى وسيلة أرخص ماديًا بديلًا ضروريًا لتلقي المساعدة النفسية من قبل مصريين يعانون يوميًا تشكيلة متنوعة من الأزمات الاقتصادية والمعيشية.

أمام العدد الضخم والمتزايد من المرضى النفسيين في مصر، يوجد فقط 15 مستشفى و62 عيادة و600 من ممارسي الصحة النفسية

وأمام هذا العدد الضخم والمتزايد من المرضى النفسيين، لا يوجد في مصر، التي يقترب عدد سكانها من المئة مليون نسمة، سوى 15 مستشفى و62 عيادة و600 من ممارسي الصحة النفسية. ولكن حتى مع تلك الحصيلة الهزيلة من مقدمي الرعاية النفسية، لا يزال كثير من المصريين يجد حرجًا اجتماعيًا في وصفهم كـ"مرضى نفسيين" أو "يحتاجون إلى مساعدة نفسية".

البعض قد يتجاوز الحرج المجتمعي ويتخذ قراره بالذهاب إلى طبيب نفسي، ولكن البعض الآخر قد لا يستطيع تحمل تكلفة استشارة طبية متخصصة مدفوعة الأجر. من هنا، ظهرت بعض المواقع الإلكترونية التي تقدم استشارات نفسية من وراء الشاشة، حيث تتلقى الشكاوى من زوّارها لتعرضها على مختصين في علم النفس يردّون على أصحاب الشكاوى وتُنشر الردود في الموقع، ليستفيد صاحب الشكوى ويستفيد أيضًا أصحاب الحالات المشابهة.

اقرأ/ي أيضًا: الأمراض العقلية في الجزائر... إهمال يضاعف المأساة

"مجانين" هو أحد المواقع الرائدة في تقديم الاستشارات النفسية، أسسته الشبكة العربية للصحة النفسية الاجتماعية تحت شعار "الصحة النفسية للجميع"، اختار منشئو الموقع هذا الاسم تذكيرًا بكلمة مجنون التي يستعملها المجتمع وسخرية منها في الوقت نفسه، إذ أن المجتمع يصم بالجنون كل من يأتي بفكرة جديدة. الدكتور وائل أبو هندي، مؤسس الموقع، يقول لـ"ألترا صوت": إن "فكرة إنشاء الموقع كانت ملحة في ظل مجتمع يرى الذهاب إلى طبيب نفسي بمثابة إهانة له".

أما عن الأجر الذي تحصل عليه هذه المواقع، فالبعض يقدم الخدمة مجانًا إلى جانب خدماتها الأخرى مثل موقع "إسلام أون لاين"، وهناك مواقع أخرى لا تحصل على مقابل مادي إذا تم عرض الشكوى النفسية على الموقع ليراها الجميع، ففي هذه الحالة يصبح الموقع مستفيدًا من زيادة عدد أعضائه وزواره. أما تلك المواقع التي تنظم لقاءات بين الأطباء النفسيين وأصحاب الشكاوى، عبر أي برنامج للمحادثة بالفيديو، فإنها تتقاضى أجرًا مقابل تلك الخدمة.

أغلب المواقع التي تقدّم خدمات تقديم المشورة النفسية على الإنترنت تدافع عن طريقتها لأنها تتيح سهولة الاتصال بين صاحب الحالة والمعالج، دون الحاجة إلى مواعيد مسبقة أو التعرض لأي عناء، وتتيح حرية الإفصاح عما يدور في ذهن الفرد، دون وجود شخص آخر يقابله وجهًا لوجه مزيلًا بذلك المقاومات النفسية من خجل أو تردد أو ما إلى ذلك. تحدث "ألترا صوت" إلى بعض المختصين في علم النفس لمعرفة مدى جدوى العلاج عن طريق هذه المواقع، وحجم التأثير الذي يمكن إحداثه على حالة المريض بواسطة تلك الطريقة، وهل ستحل أزمة الطب النفسي في مصر.

في البداية يقول الدكتور محمد عبد الله، طبيب نفسي في إحدى المستشفيات الحكومية، إنه لا توجد أبحاث تثبت مدى جدوى العلاج النفسي عبر الإنترنت، مؤكدًا عدم جواز اعتماد الطريقة على العموم. أسباب هذا الرفض يشرحها الطبيب النفسي في حديثه لـ"ألترا صوت"، حيث يقول: "أولًا لأن العلاج من وراء الشاشة لن يتيح رؤية وجه المريض أو حركات جسده وهو يروي مشاكله، حتى ولو تم تحديد مواعيد بين المرضى والمعالجين، عبر برامج التواصل الإلكتروني، فإن عدم استخدام الكاميرا يكون هو الشائع، لأن مَن يريدون أن يتم علاجهم عبر الإنترنت يحرصون على إخفاء هوياتهم الشخصية". وحتى مع توافر شروط المعرفة لدى طرفي المعالجة، يرى عبد الله أن العلاج لن يتم بصورة صحيحة "لأنه سيكون من المستحيل على الطبيب أن يكتب أو يصف دواء، لأنه أمر غير مهني وغير أخلاقي أن يصف الطبيب دواء دون معاينة حالة المريض بصورة مباشرة".

ويضيف الطبيب النفسي: "إذا كان العلاج عن طريق الإنترنت يوفر مزايا فإنه أيضًا يأتي بالكثير من العيوب، فهو يتيح للمريض التكلم بصراحة عن حالته ودون خجل وتقديم كافة المعلومات الضرورية لفهم الحالة، حتى إن كانت حسّاسة ومحرجة، ولكن في الوقت نفسه يحرم الطبيب المعالج من المزايا التي يعطيها له الاتصال المباشر".

اقرأ/ي أيضًا: نصف المغاربة مضطربون نفسيًا ودعوات لقوانين تحميهم

وعلى مسافة من الرأي السابق يأتي الدكتور تهامي عبد العزيز، أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، الذي يرى إمكانية الاستفادة من الإنترنت في علاج بعض الحالات النفسية، قائلًا: "يتوقف نجاح أو فشل العلاج النفسي عبر الإنترنت على حسب درجة المرض أو الاضطراب الذي يعاني منه الشخص، فبعض الحالات تحتاج إلى إعادة التأهيل النفسي لا العلاج النفسي، وتلك الحالات من الممكن معالجتها عن طريق الإنترنت. أما الأمراض الأكثر صعوبة فتحتاج إلى المقابلة الشخصية للمريض".

يتوقف نجاح أو فشل العلاج النفسي عبر الإنترنت على حسب درجة المرض أو الاضطراب الذي يعاني منه الشخص

ويشير عبد العزيز إلى أن هناك عامل آخر يتوقف عليه مدى جدوى العلاج النفسي بالإنترنت من عدمه وهو "مدى قدرة المريض على وصف حالته ووصف المشكلة التي يعاني منها، هذا من ناحية العلاج النفسي، أما الحوار التحفيزي ومجالات التنمية البشرية فلن نستطيع القول بصلاحيتها للتطبيق على الإنترنت في العموم، ولكن هناك حالات تحتاج من المدرب جهدًا أكبر كي يقوم بمهمته لذلك تحتاج إلى المقابلة الشخصية مع المدرب".

وعلى الخط ذاته، يتفق دكتور أشرف عامر، مدرب التنمية البشرية، مع الرأي السابق حول التأثير الإيجابي للإنترنت في تقديم دعم نفسي لبعض الحالات، حيث يقول: "هناك حالات تكون محتاجة فقط أن تعرف معلومة تساعدها على تخطي مشكلتها، وقد تعرف هذه المعلومة عن طريق مواقع الإنترنت أو الكتب، المهم أن تصل له المعلومة التي تخصّ حالته. أما إذا كانت المشكلة تحتاج إلى تعمق أكبر، وإلى حوار بين المدرب والمتدرب فلن يجوز أن يتم هذا عبر الإنترنت".

وعن مزايا ونقائص تلك الوسيلة العلاجية، يقول عامر: "بالتأكيد يتيح الإنترنت لصاحب الحالة أن يتحدث بحرية أكبر، وبلا خجل دون القيود التي يفرضها الاتصال المباشر، ولكنه سيحرم كلا الطرفين من فوائد التواصل الفعّال بينهما، ورؤية المدرب للغة جسد المتدربين ومعرفة المشكلات التي يعانون منها مثل انعدام الثقة بالنفس أو عدم القدرة على التواصل مع الآخرين والتي تتضح من خلال لغة الجسد بشكل أساسي. ولكن يمكننا القول إن الحوار التحفيزي قد يصلح إن يتم عبر الإنترنت إن كانت الحالة تسمح بهذا".

على الجانب الآخر، تأتي آراء أصحاب المشكلات النفسية لتضيف بعدًا جديدًا للجدل حول أهمية وجدوى مواقع الصحة النفسية على الإنترنت. أحمد مصطفى (اسم مستعار)، طالب في كلية الهندسة بإحدى الجامعات الخاصة، واحد من أصحاب الشكاوى النفسية الذين تحدثوا إلى "ألترا صوت" حول تجربتهم في تلقي المساعدة النفسية عن طريق الإنترنت، يكشف عن معاناة مزدوجة يجد الفرد نفسه واقعًا تحت سطوتها حين يتخذ قراره بالذهاب لطبيب نفسي.

يقول مصطفى لـ"الترا صوت": "إن قرار الذهاب إلى طبيب نفسي أمر بالغ الصعوبة، ليس على المستوى الاجتماعي فقط ولكن أيضًا على المستوى الشخصي". ويشرح طالب الهندسة صعوبة وتعقيد الأمر بتذكر ما حدث مع إحدى صديقاته المقربات قبل أعوام قليلة، عندما علم أحد زملائها في الجامعة بترددها على عيادة أحد الأطباء النفسيين المشهورين في الحي الذي يسكنه. يقول مصطفى: "عاشت صديقتي فترة صعبة وجدت فيها نفسها مطالبة بتقديم دفعاتها فقط لأنها بحثت عن مشورة نفسية تعينها على الاستمرار في حياتها بشكل طبيعي ومستقر. حين أفكر في ما يمكن للمجتمع، وللوسط المقرّب من الفرد، فعله وفرضه على الواحد كي يدخله ضمن دائرة الأفراد "المرضي عنهم"، أجد أن الأمر يتعدّى حدود ما هو خارج عن الشخص نفسه بل يجبره على مراجعة إيمانه ووثوقه باختياراته هو شخصيًا".

تفاصيل كثيرة يوردها الطالب الجامعي في حديثه تصبّ جميعها في خانة التأكيد على ضرورة وجود بدائل لتجربة طلب الاستشارة النفسية من الأطباء في عياداتهم، لأنه في النهاية وجود مثل تلك المواقع التي تقدم مساعدة نفسية لزوّارها أفضل من "مفيش"، كما يقول مصطفى، "خصوصًا في ظل عدم اعتراف المجتمع بالصحة النفسية، وشعور المريض بأن حاجته للعلاج وإعادة التأهيل تصمه أمام المجتمع. ففي هذه الحالة تكون مواقع الصحة النفسية أفضل، وربما كان مهمًا بالنسبة للمريض أن يتحدث معه أحد المتخصصين كصديق ويضع معه حلولًا لمشكلاته، وهو دور قد تقوم به المواقع بصورة جيدة، إذا توفرت الشروط المناسبة في هيئة إدارتها والقائمين عليها".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما هو الاضطراب الوجداني ثنائي القطب؟

اضطرابات الجسدنة.. النفس والجسد