08-أغسطس-2016

ماسيمو بانزي مهندس المصادر المفتوحة

على عكس السائد اليوم، لم تكن الابتكارات خاضعة للاحتكار من قبل الأفراد والمؤسسات والشركات الكبرى. فمنذ فجر التاريخ حرص الإنسان كلما اكتشف أو ابتكر شيئًا نافعًا على مشاركته مع غيره لتعم الفائدة على الجميع، فلم تظهر وتتبلور مفاهيم كـ"حقوق الملكية الفكرية" ومصطلحات كـ"جميع الحقوق محفوظة" إلا في القرن العشرين مع ازدياد رواج الرأسمالية وطغيانها علي أي إيديولوجية أخرى وتوحشها وتغولها وتوغلها داخل الدول والأنظمة والحكومات والشركات متعددة الجنسيات.

ظهرت حقوق الملكية الفكرية لحفظ حقوق المبدعين إلا أن ازدياد نفوذ الرأسمالية ورغبة المستثمرين في الأرباح المهولة جعل الأمور تزيد عن المعقول

صحيح أن مفهوم حقوق الملكية الفكرية ظهر في البداية كرد فعل قانوني لحفظ حقوق المبدعين الأدبية قبل المالية مع انتشار حوادث سرقة إبداعات أفكار الكثيرين من العظماء ونسبتها لأشخاص آخرين (ولعل أشهر الأمثلة في هذا الموضوع هي الاتهامات المتبادلة تاريخيًا بين إسحاق نيوتن وليبنيتز حول أيهم توصل إلى ابتكار علم التفاضل والتكامل أولاً) إلا أن ازدياد نفوذ الرأسمالية ورغبة المستثمرين في الأرباح المهولة والثراء الفاحش جعل الأمور تزيد عن الإطار المعقول لتتحول المسألة من مجرد حفظ حقوق المبدعين من السرقة إلى منع أي ابتكار جديد على الإطلاق لمجرد وجود تشابه بينه وبين ابتكار سابق (وحتى لو كان هذا التشابه غير مقصود!) وهكذا أصبحت حقوق الملكية الفكرية قيودًا وأغلالًا على الإبداع بدلًا من كونها وسيلة تنظيمية فقط.

كاريكاتور لدعاء العدل

 

إلا أنه ثمة أيضًا بعد أخلاقي مهم في هذه المسألة، فلنتخيل مثلًا أن أول إنسان اكتشف النار لتقيه من برودة الجو قرر احتكار هذا الاكتشاف ومنع غيره من الحصول عليه إلا بتكاليف ضخمة في ذاك العصر القديم، ولنتجاوز كل هذه القرون سريعًا إلي القرن العشرين وتحديدًا في اللحظة التي نجح فيها الطبيب جوناس سالك في تطوير لقاح ضد مرض شلل الأطفال. فحين سئل الرجل عمن يملك براءة هذا الاختراع كان رده بسيطًا للغاية: "الناس، أعني.. هل يمكنك أن تضع براءة اختراع على الشمس مثلًا؟" فلنا أن نتخيل ملايين الأطفال في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وحتى في أمريكا الشمالية نفسها ممن لم يحصلوا على هذا اللقاح نتيجة لفقرهم إن كان هذا الاكتشاف العلمي قد خضع لقوانين الملكية الفكرية وقواعد الاحتكار والعرض والطلب الرأسمالية.

ونفس الأمر يمكن تخيله حينما اخترع المهندس نيلس بوهلين حزام الأمان أثناء عمله بشركة فولفو للسيارات وصمم على أن يعطيه للعالم بأسره دون أي حقوق ملكية فكرية فتلك مجرد أمثلة بسيطة على اكتشافات كان من الممكن أن يقتصر استخدامها على الأغنياء فقط لو خضعت لعملية الاحتكار المعتادة إلا أن صانعيها، لإدراكهم لهذا البعد الأخلاقي لعملهم، قرروا أن يمنحوا الفرصة لكل الناس بلا أي تمييز بين الطبقات والمستويات الاجتماعية والمادية، بأن يستخدموا اكتشافاتهم بل وأن يطوروها أيضًا لكن ظل الأمر خاضعًا لتقديرات ومبادرات فردية من عباقرة كهؤلاء، حتى جاء المبرمج الأمريكي ريتشارد ستالمان عام 1983 بمبادرة لمأسسة أفكاره وفلسفته حول وجوب كون البرمجيات حرة ومتاحة للجميع ليقوموا بالتعديل عليها ونسخها واستخدامها.

اقرأ/ي أيضًا: مهندسون عباقرة: جيري إليسورث مهندسة التعليم الذاتي

أنشأ ستالمان مشروع جنو للبرمجيات الحرة ومؤسسة البرمجيات الحرة ليتحول مبدؤه الشهير "جميع الحقوق متروكة - إلى اليسار" (Copyleft) المضاد للشعار الرأسمالي الشهير "جميع الحقوق محفوظة - إلى اليمين" (Copyright) إلى تطبيق عملي على أرض الواقع. رغم انضمام الكثيرين إلى مبادرته، على سبيل المثال المبرمج الفنلندي الشهير لينوس تروفالدز (صانع نواة نظام التشغيل المجاني المفتوح المصدر الشهير لينوكس)، ورغم أن العديد من البرامج الشهيرة قد خرجت من تحت هذه المبادرات، كمتصفح فايرفوكس الشهير مثلاً، فإن الأمر لم يخل من متاعب فتم اتهام كل من يؤمن بفلسفة المصادر المفتوحة بالشيوعية والأناركية، الأمر الذي نفاه القائمون على هذه المبادرات وأكدوا أنهم فقط يدافعون عن حق كل إنسان في الإبداع والابتكار والإضافة على ابتكارات من سبقوه دون وضع قيود احتكارية من الشركات والمؤسسات الكبرى.

تم اتهام كل من يؤمن بالمصادر المفتوحة بالأناركية الأمر الذي نفاه القائمون على هذه المبادرات وأكدوا أنهم يدافعون عن حق كل إنسان في المعرفة

لكن ظلت مثل تلك المبادرات والأفكار قاصرة على البرمجيات في الفضاء الافتراضي، فما أسهل أن تصنع برنامجًا ثم تنشر شفرة برمجته على الإنترنت متيحًا الفرصة لأي شخص أن يقوم بتعديله وتنقيحه وإضافة ما شاء عليه لكن ظلت فكرة الإبداع الحر المفتوح المصدر دون قيود حبيسة شاشات الحواسيب وخوادم الإنترنت حتى جاء المهندس الإيطالي ماسيمو بانزي ليقوم بنقل تلك الأفكار إلى أرض الواقع الملموس ويتيح لغيره من المهندسين تطبيقها.

الجميع يعلم جيدًا الفارق بين البرمجيات (Software) والعتاد (Hardware) وإذا كان جزء كبير من البرمجيات قد أصبحت مفتوحة المصدر وأصبح بإمكان أي شخص أن يطلع على طريقة برمجة أي برنامج حر من خلال الإنترنت فما المانع أن يتم فعل نفس الشيء مع العتاد (Hardware)؟ هكذا فكر ماسيمو بانزي ومعه كثيرون فنشأت مبادرات للعتاد المفتوح المصدر (Open Source Hardware) المكملة لمبادرة البرمجيات المفتوحة المصدر (software) والتي تختلف عن الأخيرة فقط في أنه بدلاً من نشر الكود البرمجي للبرنامج وجعله متاحًا للجميع فإن ملفات تصميم العتاد الملموس سيتم نشرها على الإنترنت ليستطيع أي شخص الاطلاع عليها وتصميم عتاد مثلها أو حتى التعديل عليها وإضافة ما يريد تمامًا مثل البرمجيات المفتوحة المصدر ولكن ببذل مجهود أكثر لتحويل تلك الملفات والتصميمات إلى واقع مادي ملموس.

كانت الفكرة في البداية هي رغبة شخصية من ماسيمو لتعليم طلاب الجامعات كيفية برمجة المتحكمات الدقيقة Microcontrollers (وهي إحدى المهارات المهم تعلمها لطلاب العديد من الأقسام في كليات الهندسة حول العالم) وتطبيقاتها التي تشمل التحكم في وظائف العديد من الأجهزة المنزلية وحتى الروبوتات بشكل مبسط. إلا أن المشكلة الأكبر التي واجهته هي التكلفة الباهظة لتلك المتحكمات بالإضافة إلي صعوبة تعلم لغة البرمجة الخاصة بتلك الرقاقات لكونها تتحكم في أجهزة كهربائية كمصابيح الإضاءة وميكانيكية كالمحركات فهي تختلف بشكل كبير عن برمجة برنامج يعمل بداخل حاسوب شخصي فتلك البرامج تقترب لغة برمجتها إلى حد كبير من لغة الإنسان الطبيعية ومنطقه في التفكير أما المتحكمات فهي تتحكم في إشارات كهربائية بسيطة مما يجعل لغة برمجتها أصعب بكثير وأقرب إلى اللغة الوحيدة التي يفهمها الحاسوب (ووظيفة أي نظام تشغيل كويندوز أو لينوكس أو ماك هي ترجمة ما نفعله إلى تلك اللغة) وهي الواحد والصفر!

اقرأ/ي أيضًا: مهندسون عباقرة: جيمس بروتون مهندس الخيال العلمي

في عام 2004 كان ماسيمو مشرفًا على رسالة بحثية لطالب كولومبي يدعى هيرناندو باراجان، وكان هدف البحث الذي طلبه ماسيمو من هيرناندو هو تصنيع أداة تقنية بسيطة مفتوحة المصدر تمكن كل الناس (حتى غير المهندسين) من صناعة عتاد رقمي يمكن استخدامه لجميع التطبيقات الإلكترونية والميكانيكية المعاصرة. وبالفعل صنع الطالب لوحة مبسطة بلغة برمجة سهلة لكن بدائية. وفي عام 2005، اجتمع ماسيمو مع كل من ديفيد ميليس طالب الدراسات العليا الأمريكي والمتخصص في مشاريع 'اصنعها بنفسك' وديفيد كورتيليس أستاذ الجامعة الأسباني المتخصص في تقنيات التعليم التفاعلية وتوم إيجوايو، أستاذ الفنون الأمريكي، وجيان لوكا مارتينو، رائد الأعمال الإيطالي، وقاموا بإضافة بعض التعديلات علي لوحة هريناندو الأصلية وتبديل الرقاقة الإلكترونية التي استخدمها برقاقة أقوى واستبدال لغة البرمجة البدائية بلغة أقوى وأكثر فعالية ولكنها تحتفظ بالبساطة مما يجعلها سهلة التعلم. ونظرًا لعقد هذه الاجتماعات في مدينة أيفيريا الإيطالية، قرروا تسمية هذه المتحكمة الدقيقة المفتوحة المصدر باسم "أردوينو" نسبة إلى "أردوين من أيفيريا"، أحد أبطال إيطاليا الشعبيين كونه سعى لاستقلال إيطاليا عن الإمبراطورية الرومانية.

فريق أردوينو

ظلت فكرة الإبداع الحر المفتوح المصدر دون قيود حبيسة شاشات الحواسيب حتى جاء المهندس ماسيمو بانزي ليقوم بنقل تلك الأفكار إلى أرض الواقع

تم تطوير لوحة أردوينو الإلكترونية التفاعلية لتصبح أخف وزنًا وبمكونات أقل تكلفة وتمت الدعاية لها في البداية بين الأساتذة الجامعيين ومجتمع المصادر المفتوحة كلوحة كمبيوتر مبسطة يمكن ﻷي شخص التحكم من خلالها في أي تطبيق إلكتروني أو ميكانيكي بل ويمكنه تصنيعها من الصفر إن أراد أيضًا.

سعر بيع لوحة الأردوينو الأصلية المصنّعة داخل إيطاليا هو 27 دولارًا تقريبًا، إلا أن دولة مثل الصين قامت بتصنيع لوحة سعر بيعها هو 11 دولارًا فقط، وهي أثمان زهيدة للغاية بالنسبة للطلاب والمهندسين والمطورين وهواة الإلكترونيات قياسًا بالإمكانيات الضخمة للغاية لتلك اللوحة الصغيرة مما جعل عدد مبيعات الأردوينو يصل إلى أكثر من 700 ألف لوحة في عام 2013 فقط. هذا بالرغم من أن كل الملفات التي تشرح كيفية صناعة لوحة الأردوينو والكود البرمجي لنظام التشغيل ولغة برمجة الأردوينو منشورين على شبكة الإنترنت منذ اللحظة الأولى لإطلاق المشروع بالفعل، كونه عتادًا مفتوح المصدر.

 ماسيمو بانزي

 

أصبح أردوينو علامة تجارية مشهورة وتم اختيار ماسيمو من قبل باقي فريق المؤسسين ليكون رئيسًا لشركة أردوينو المتخصصة في تصنيع لوحاته المفتوحة المصدر. قام ماسيمو بتأليف كتاب يشرح للمبتدئين وغير المتخصصين كيف يبدؤون برمجة الأجهزة باستخدام لوحة الأردوينو كما قام بنشر العديد من الفيديوهات على اليوتيوب ليشرح فيها كيفية تعلم الأردوينو.

توسعت لوحات الأردوينو لتشمل أحجامًا مختلفة وإمكانيات مختلفة لتناسب تطبيقات أكثر كما ساعد توسع الشركة في ضم مهندسين ومطورين ومبرمجين جدد أضافوا خاصية الأغطية وهي تقنية تشبه كثيرًا البطاقات المضافة للحاسب الآلي العادي، مثل بطاقة الشاشة وبطاقة الصوت وبطاقة الإنترنت، فتعمل هذه الأغطية مع لوحة الأردوينو بنفس الكيفية تقريبًا، فأصبح هناك أغطية لجعل لوحة الأردوينو تصدر أصواتًا (في حال أراد من يعمل بها صنع إنسان آلي يصدر أصواتًا على سبيل المثال) وأغطية لتوصيل لوحة الأردوينو بشبكة الإنترنت (فأصبحت الأردوينو جزءًا من عالم واسع جديد يعرف بإنترنت الأشياء).

وفي عام 2015 أعلنت شركة مايكروسوفت أنها عقدت اتفاق شراكة مع شركة أردوينو تقوم بموجبه بتقديم تسهيلات في نظام تشغيل ويندوز للراغبين في تشغيل برنامج أردوينو لبرمجة اللوحة على ويندوز وقد قوبل هذا الاتفاق بعاصفة من النقد حيث أبدى كثيرون تخوفهم من أن تكون هذه الخطوة تمهيدًا لسيطرة مايكروسوفت (المعروفة باحتكارها للعلم وسعيها نحو الأرباح) على مشروع أردوينو وجعله مغلق المصدر فيما بعد ثم تحويله لبرنامج ولوحة باهظة السعر. هذا التخوف عده الكثيرون مشروع لكن البعض رأى في الشراكة انتصارًا ضخمًا لعالم المصادر المفتوحة على عالم احتكار المعرفة كون مايكروسوفت هي من سعت للشراكة مع أردوينو وليس العكس أي أن مايكروسوفت تبنت فلسفة المصادر المفتوحة، رغمًا عنها، في اعتراف واضح بأن هذه الفلسفة هي التي انتصرت على حساب احتكار الابتكارات.

اليوم صارت لوحة أردوينو الإلكترونية مكونًا أساسيًا في تعلم طلاب الهندسة حول العالم (بما فيها جامعات كبرى ككارنيجي ميلون وستانفورد) فتلك اللوحة الصغيرة الرخيصة يمكن توصيلها بالمحركات وأجهزة الاستشعار والمصابيح والهواتف النقالة. وصارت فلسفة تعلم الإلكترونيات، كما يقول شريك ماسيمو ديفيد ميليس: "إذا أردت تعلمها فلتتعلمها أثناء قيامك بها منذ اليوم الأول بدلًا من أن تبدأ أولًا بتعلم الرياضيات قبل أي شيء آخر" (كمثال أحد ملصقات الدعاية تقول: الآن يمكنك صناعة الروبوتات سواء كنت في الثامنة أو الثامنة والثمانين وسواء كنت مهندسًا أو شاعرًا). كانت ولا تزال هناك انتقادات حادة لمشروع أردوينو، ففي رأي البعض، جعل الإلكترونيات متاحة للجميع بتبسيط لغة البرمجة وتركيب مكونات إلكترونية بسيطة يهدر مجهودات المهندسين الـ"محترفين" الذين يصنعون دوائر إلكترونية معقدة وهذا يغرق السوق بـ"مشاريع المبتدئين".

لكن رد فريق أردوينو كان أن أحد الأهداف الأصلية من المشروع هو جعل الآخرين يستطيعون التواصل مهنيًا مع المهندسين فهي لا تنزل بمستوى الهندسة بل تسهل المسألة فقط. إذًا فصناعة هذه اللوحة الإلكترونية، تلك الرقاقة المفتوحة المصدر، التي غيرت تاريخ الإبداع الإلكتروني، كانت مجهودًا جماعيًا بلا شك وتراكمًا لأفكار وفلسفات ربما عمرها مئات أو آلاف السنين لكن الأمر بدأ بمهندس واحد فقط هو ماسيمو بانزي، صاحب المقولة الشهيرة: "أنت لا تحتاج إذنًا من أي شخص أو جهة لتخترع شيئًا عظيمًا".

لمزيد من المعلومات: 1 / 2 / 3 / 4 / 5 /

اقرأ/ي أيضًا:

هايبرلوب.. القطار الكبسولة

البشرية في خطر .. عصر "ما بعد المضادات الحيوية"