11-سبتمبر-2016

مها حسن

نحن أبناء المنافي ومرضاها.. ما نعيشه اليوم كل في منفاه، مرضٌ تصفه الروائية السورية مها حسن بخلل المنافي، هذا الداء الذي يصيب الخارجين من أوطانهم إلى حياة المنفى، تلك الحياة الجديدة التي تنقلب أحلامًا وكوابيس تزورنا كل يوم بثقل يزيد مع تواتر الحدث، ولا نعرف طريقًا يخرجنا منها.

في روايتها "مترو حلب"، ترسم مها حسن جسرًا طويلًا من أحلامها وكوابيسها بين مدينتي حلب وباريس

في روايتها "مترو حلب" (دار التنوير 2016) ترسم مها جسرًا طويلًا من أحلامها وكوابيسها بين مدينتي حلب وباريس، تحكي من خلاله بعض تفاصيل المأساة السورية في جانبها الإنساني المتعلق باللجوء والفقد الذي كان إحدى نتائج الحرب المستمرة في سوريا منذ خمس سنوات، حيث تعيش بطلة روايتها "سارة" بصراعات نفسية داخلية بعد خروجها من حلب إلى باريس بدعوة طارئة من خالتها المريضة أمينة، في زيارة حولتها ظروف الحرب إلى لجوء ولّد مرض الحنين لديها.

اقرأ/ي أيضًا: خالد خليفة.. بلاد في جنازة

الفقد الذي أسسته الكتابة يتطور، موت الخالة يجعلها وحيدة في تلك المدينة البعيدة عن حلب، تحاصرها الفكرة المستحيلة بالعودة إلى سوريا، لتبدأ بالبحث عن أسرار حياتها التي لم تعرفها قبل ذلك، في شرائط تسجيلية تركتها خالتها لها، تحكي قصصًا أخرى من الحنين والفقد والتضحية، لتكتشف أن أمينة ليست خالتها بل أمها، وهدهد التي تركتها أماً في حلب، صارت خالتها التي ربتها إلى أن أصبحت المهندسة سارة.

هنا تصبح الحرب تفصيلًا جانبيًا رغم قساوتها، فسارة لا تمر عليها إلا ببضع دقائق تشاهد فيها ما يحصل في مدينتها عبر نشرة الأخبار، في إشارة واضحة أن من يخرج من الحرب لاجئًا يصبح بعيدًا عنها، يفقد مع الوقت معركته هناك ليصير ابن معركة أخرى هي المنفى.

تأخذنا حسن في جانب آخر من حياة سارة، تدور معالمه في من عرفتهم خلال غربتها من معارضين و"ثوار" يعيشون في الخارج، أولئك الذين تنتقدهم الكاتبة على لسان بطلتها، حيث لا يملكون سوى الألسنة التي تأكل بانتقادها كل ما يحصل داخل سوريا، ويكتفون باللجوء إلى الصور في الساحة العامة، حيث تختفي خلف تلك الصور الملتقطة، قصص مليئة بالكراهية والحقد والمتاجرة بكل ما يحدث في سوريا، فضلًا عن التهم الجاهزة التي يحيكونها لبعضهم، وهو ما تعافه سارة، فتبتعد عنهم لتعيش وحيدة في منفاها وكوابيسها.

الحنين مرض يصيب سارة يوميًا، هي في باريس لكنها تمر قرب قلعة حلب، الشانزليزيه ليس إلا سوقًا في حلب، مقاهي باريس الراقية، كلها تطل على حلب، المترو الباريسي يبدأ خطوطه في باريس وينتهي في مترو حلب. ما بقي من الخالة الأم من حكاية مليئة بالغرائبية بين هدهد ووليد وعادل وأمينة تصدم سارة، التي تاهت في محطات مترو باريس الذي أصبح بالنسبة لها طريقها الوحيد إلى حلب.

في رواية "مترو حلب" تصبح الحرب تفصيلًا جانبيًا رغم قساوتها

في باريس تقف مها حسن عبر بطلتها سارة على زاوية الثورة في سوريا، تفكر خارج صندوقها المليء بالألغام، تنتقد السيئ فيها، وترثي الجيد الذي اعتقل أو مات أو أصبح منفيًا مثلها، تلتقي هناك بطارق الذي رأته يومًا في مظاهرة لم تكن من مشاركيها، لكنها أنقذته فيها من أيدي قوات الأمن، يلمحها مع متشردي المترو الباريسي، تتفاجئ فيه بعد خروجها من حالة الهذيان التي كانت تعيشها، يخبرها أنه هرب من سوريا، بعد أن قتل المتطرفون رفاقه هناك واعتقلوهم، ليصبح شاهدًا على مرحلة سوداء من عمر الثورة التي آمن بها.

اقرأ/ي أيضًا: سماء قريبة من بيتنا.. مرايا الأمكنة والشتات

سارة لا تعرف الكثير من القصص إلا ما روته لها أمينة عبر أشرطتها، لا تعرف الكثير عن تضحيات أمها الأخرى هدهد، لا تعرف عادل الذي أحب هدهد لكنها غادرته لأجلها، ولا تعرف وليد الذي أحب أمينة لكنه خسرها بسبب طموحها الكبيرة في عالم المسرح، سارة لا تعرف فصول التراجيديا التي كانت ستعرفها حتمًا، لو أن القذيفة لم تقتل هدهد في ذلك اليوم الذي واعدت فيه عادل بعد ثلاثين عامًا من الفراق.

لم تكن الحرب في صورتها ما استهدفته مها حسن، لكنها عكست الصور النفسية لشخصياتها التي عاشت الحرب، ناسجة حكاياتها بمزج درامي مع حكايا شخصيات مكملة لتلك الصور، لتخرج القصة وكأن معارك شخصيات روايتها لا تقف عند الحرب السورية فقط، بل هي معارك حياة بين الغربة واللجوء والحنين والرغبة بالانتقام والألم الناتج عن الفقد والتضحية التي تبررها كل شخصية بحسب موقعها من السياق الحكائي.

تعود سارة إلى حلب، يحملها يان الذي يريد أن يصل لحقيقة الوضع في تلك المدينة التي تحاك عنها قصص الحرب اليومية، تصير سارة كأمها أمينة، بنت طموحها ورغبتها في الخروج من عباءة الحنين، تهرب سارة كما هربت أمها قبل ثلاثين عامًا إلى باريس، حيث سطعت كنجمة مسرحية لامعة، لكن سارة اختارت أن تكون نجمة من نوع آخر تسكن سماء حلب، تحيط بها أطياف أمينة وهدهد ووليد.. وسوف يحيط بمها في نهاية روايتها طيف والدتها التي رحلت قبل أشهر، تلك الأم التي أهدتها الكاتبة روايتها ملقبة إياها في مطلعها بينبوع السرد!

اقرأ/ي أيضًا:

عمرو العراقي.. أول كتاب عربي عن صحافة البيانات

"أن تحبك جيهان".. مجتمع على الحافة