04-أغسطس-2015

أطفال من غزة بين ركام منزلهم (أ.ف.ب)

لم أنم تلك الليلة. ليالٍ كثيرة بعدها أيضًا بقيت حبيسة المشهد نفسه. رغم وفرة الغيوم، ورغم سطوة الطقس البائس، كانت الألوان تنبعث نحوي من كل صوب. تقدّم لي "بطاقة دعوة"، لمكانٍ يفترض أني أسكن فيه منذ تسع سنوات. وكانت الدعوة تلاحق رأسي. يترنّح يمينًا وشمالًا: ثمة صور في رأسي، أيقنت. صور تصفع وجهي بهواء بارد كلما حاولت المقاومة. استفزتني الصور، ذلك أنها إعتبرت وجودي خياليًّا. وجود غير لائق بضباب لندن. لكن الصور على حق أكثر منّي، فلا شيء في هذا المكان يشبهني، أو بمعنى أدق، يشبه ما كان يدور في رأسي في ذلك اليوم.

الغربة قاسية. يقولون إنها سبب العزلة، لكنها ليست سبب المتاهة

لا أحد غيري كان على علمٍ بما حدث أمس. لقد مات الأطفال الذين كانوا يلعبون كرة القدم على شاطئ البحر في غزة. ماتوا جميعًا بصاروخ. وقعت هناك مجزرة واضحة. ولا أثر لشيء هنا سوى ضحكات أطفال لا ذنب لحماسهم سوى أنهم يستحضرون المشهد أمامي من جديد. أطفال لندن لم يسمعوا بالمجزرة التي حدثت لأصدقائهم في غزة. الغربة قاسية. يقولون إنها سبب العزلة، لكنها ليست سبب المتاهة. كان فائض الطفولة.

وجوه الأطفال كانت تحمل فرحًا مضاعفًا. ذلك النوع من الضحك الذي يبدو مضمونًا لمدى الحياة. فكرت بكل هذا، وأنا أراقب طفلًا جميلًا يمسك بيد إمرأة شقراء وهما يتمشّيان في وسط الساحة. كانت يده اليسرى متروكة للهواء وابتسامته آمنة، ليس فيها شيء من الخوف، مجرّد طفولة. كان من الصعب أن يفهم هذا الطفل ما حدث قبل يوم في مدينة لا يعرفها، وعلى الأغلب، لن يزورها يومًا. فكرت، وسألتني السؤال الأصعب: لماذا يموت الأطفال؟ الأطفال من عالم واحد أما المدن فليست كذلك. لندن باردة، وغزة لاهبة. لقد مات أربعة أطفال أبرياء قبل يوم، ولا دليل هنا على الموت سوى في نشرات الأخبار.

مشيت إلى الجهة المقابلة وجلست في مقهى صغير. هناك أيضًا، كانت الطفولة حاضرة، تردّني وبقوة إلى مشهد الشاطئ من جديد. جلست بقربي طفلة مع إمرأة عجوز، كانت على الأغلب جدتها. سمعت حديثهما عن قصد، تلصصت عمدًا، لكن حوارهما الرقيق كان مؤلمًا. كانت الطفلة تقفز وهي تحدث الجدة عن حماسها لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في ديزني لاند، ما يجب أن تشتريه من ثياب وأشياء للرحلة. غادرت لكي لا أفكر أكثر. خلال هذا الوقت، انتبهت إلى أن جميع الأطفال هنا، غالبًا ما يكونون برفقة أحد أفراد العائلة أو الحاضنة. لا يلعبون في الساحات والشوارع أو على شاطئ البحر وحدهم. كان ما خطر في بالي في تلك اللحظة أن أطفال غزة وحدهم. لعبوا على الشاطئ وحدهم. وماتوا أيضًا وحدهم. لماذا كانوا دائمًا وحدهم؟