06-مايو-2020

شادي حبش (Facebook)

ما كان يميز مصر حتى سنوات قليلة سابقة أنها كانت تتصرف كدولة، تتحدث كدولة، تُخطئ كدولة، تَظلم كدولة، وتهتم بصورتها أمام باقي الدول، لذلك كانت أنظمة لا شك في قمعيتها كأنظمة عبد الناصر والسادات ومبارك تحرص على وجود تنظيمات حاكمة وأخرى منافسة، ومؤسسات هرمية مستقرة، ومجالس نيابية بها الحد الأدنى من المعارضة حتى داخل التنظيمات الحاكمة نفسها، تحبس بقانون وتمارس القمع بنص دستوري أو تعلن الطوارئ ليتعطل الدستور فلا تُتَهم بخرقه.

منذ ٤ سنوات تقريبا انتقلنا إلى صيغة حكم جديدة تماما، حيث لا اهتمام بالشكل، ولا بإلباس الظلم ثوب القانون، ولا سماح بأي شكل من أشكال المعارضة والتنوع، يقول الدستور عدالة انتقالية؟ نتجاهله، يحدد نسبة معينة للإنفاق على التعليم والصحة؟ لا نلتزم بها، يعطي ضمانات وحقوق للمتهمين ويحترم الحقوق والحريات؟ سنفعل العكس، لا يحدث ذلك سهوًا، بل بقرار واضح وبأكثر فجاجة ممكنة لتصل الرسالة للجميع في الداخل والخارج: نحن بلا سقف.

فنان في أوائل العشرينات اسمه شادي حبش

شارك كمخرج في أغنية سياسية لرامي عصام، ضعيف جدا على المستوى الفني وأول من انتقدها كان المعارضون والمحسوبون على الثورة، لكنها تبقى عمل فني رديء لا أكثر، يمكن تجاهله ليموت تلقائيا، يمكن الرد عليه بعمل فني رديء آخر كأعمال كثيرة أنتجتها الأجنحة المؤيدة للدولة، يمكن حتى أن يقرصوا أذن من شارك فيها، لكن الدولة الجديدة لا تعترف بأن للخطأ درجات وبالتالي فالعقوبة يجب أن تكون شديدة ورادعة، بداية من بوست ساخر على الفيسبوك، مرورا بالسعي للمشاركة في السلطة أو المنافسة عليها، وصولا إلى حمل السلاح.

الدول تحكمها القوانين، ومن ارتكب جريمة يُعاقب ومن لم يرتكب جريمة فمعاقبته جريمة، والحبس الاحتياطي بصورته الحالية أكبر جريمة

قبضت الدولة على فادي حبش الذي أخرج الأغنية، وعلى مؤلفها جلال البحيري، وعلى كل من له علاقة حديثة أو قديمة برامي عصام حتى أنه ألقي القبض على مصطفى جمال، لمجرد أنه ساعد رامي في توثيق حسابه على الفيسبوك في2015!

ولأنه بالطبع لا يكفي "قرصة أذن" بقي الجميع في السجن من وقتها"آذار/مارس 2018" إلى الآن، حتى مات الشاب شادي حبش في محبسه عن عمر لا يتجاوز 25 عامًا، بيان النائب العام الذي صدر بعد 5 أيام كاملة من الوفاة قال إن شادي شرب "كحول" بطريق الخطأ، لكنه البيان نفسه يكشف عن حقائق كارثية منها أن شادي أخبر زملائه في الزنزانة بتناوله الكحول منذ ظهر اليوم السابق على الوفاة، بينما رآه أول طبيب فجر اليوم التالي أي بعد قرابة العشرين ساعة، عندما تم نقله إلى عيادة السجن التي لا تملك إمكانيات تذكر لمثل هذه الحالات، وبعد 20 دقيقة فقط عاد شادي لزنزانته مجددا بعدما حقنه الطبيب فقط بمضاد للقيء.

اقرأ/ي أيضًا: ردًا على "ضرورات مانيفستو الإضراب الأيرلندي"

بعدها ساءت حالته في الظهيرة واشتكى من ألم شديد في البطن، ليعود إلى العيادة فيحقنه الطبيب بمضاد للتقلصات ويعيده مجددا للزنزانة بدلا من تحويله سريعا إلى مستشفى مؤهلة للتعامل مع حالته، لذلك كان طبيعيا أن يحتضر الشاب العشريني أمام زملائه ليلفظ أنفاسه مساءً، قبل أن تحضر عربة الإسعاف التي استدعتها العيادة أخيرًا لنقله إلى مستشفى خارجية، كل هذا الوقت كان كفيلا بإنقاذ حياة الشاب الحالم الموهوب، لكنهم أصروا على قتله مرتين، مرة حين حُبس دون سند من قانون ولا عرف ولا أخلاق، ومرة حين تباطؤوا في علاجه!

مات شادي في الحبس الاحتياطي، ولمن لا يعرف الحبس الاحتياطي في مصر فهو عقوبة كل من لم يفعلوا شيئا يخالف القانون، لا يوجد نص قانوني يمكن أن يحبس شخصا لسنوات لمجرد أن "شكله لا يعجب السلطة"، لكن الحبس الاحتياطي يفعل.

الحبس الاحتياطي في مصر هو عقوبة كل من لم يفعلوا شيئا يخالف القانون، لا يوجد نص قانوني يمكن أن يحبس شخصا لسنوات لمجرد أن "شكله لا يعجب السلطة"، لكن الحبس الاحتياطي يفعل ذلك

بالقانون، لم يرتكب زياد العليمي وحسام مؤنس وأفراد تحالف الأمل جريمة حين فكروا في خوض الانتخابات البرلمانية، لم يفعل شادي أبو زيد ما يستحق العقاب لأنه يعبر عن أفكاره بالسخرية، لم يُخطيء عادل صبري وسولافة مجدي ومحمد صلاح وخالد داود ومعتز ودنان وهشام فؤاد حين مارسوا مهنة الصحافة، ولو تم تحويل قضايا حازم حسني وعبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص وعلاء عبد الفتاح وهيثم محمدين ومحمد الباقر وماهينور المصري إلى المحكمة، لما استمروا في السجن ليوم واحد.

لم يعد الجبس الاحتياطي إجراء احترازي لمن يُخشى تلاعبه بأدلة القضية، كل هذه القضايا أصلا لا يوجد بها دليلا واحدا يمكن التلاعب به، فقط محضر تحريات ثابت بالانتماء لجماعة محظورة ونشر أخبار كاذبة، يتغير في صدرها اسم المتهم ثم تُحول إلى النيابة لتبدأ رحلة الحبس الاحتياطي أوتوماتيكيا حتى يقرر من اتخذ قرار الحبس أن هذا يكفي.

ممارسة ثأرية لا تليق بدولة حديثة، لا تليق بدولة أصلا، فالدول تحكمها القوانين، ومن ارتكب جريمة يُعاقب ومن لم يرتكب جريمة فمعاقبته جريمة، والحبس الاحتياطي بصورته الحالية أكبر جريمة.

اقرأ/ي أيضًا:

ضرورات مانيفستو الإضراب الأيرلندي

الشنطة فيها عمالة غير منتظمة!