21-أبريل-2020

لكل معركة ظروفها، ولكل حبسة ضوابطها، ولكل مقاومة حدودها (Getty)

*هذه رسالة مسربة من أحد سجون تنظيم الدولة المصرية، سيبقى كاتبها مُجهل الهوية إعلاميًا في الوقت الراهن، ردًا على ضرورات مانيفستو الإضراب الأيرلندي.


 

مرحبًا عزيزي..

قرأت مقالك، ولم يكن بوسعي إلا أن أرد عليه برسالة، استعادة لألعاب الماضي وتحيزًا لحقنا في البوح علامة على أننا أحياء، منتبهين.

لكل مقاومة حدودها، لتبقى الحرية في فهم الضرورة ووعيها

لأجل رسالتك أضأت شمعة، وقد كنت اعتدت الكتابة على ما توفر من ضوء الشمس الخافت جدًا والمتسلل من بين شبك كثيف من خلف جدران شاهقة بلا أي مبالغة، أراها كل 15 يومًا تقريبًا، ورأيتها أول يوم جئت فيه إلى هنا وقلت في نفسي: لن يهرب من هنا ولا أبو خطوة!.

ورغم أنني في أفضل حالٍ الآن من جهة كوني سجين، لكن أبدًا لن أسلم بأن السجن للجدعان. السجن ليس للجدعان يا صديقي، الجدعان هم الذين يعيشون على الأسفلت. كان الجنائيون، في فترة حبسي الإداري، يقولون على من خرج السجن "دخل الشارع".

لذا فإن هذه الرسالة ليست ردًا على مقالك بقدر ما أنها هامش على متنها لا من جهة الشرح وإنما من جهة الاستيفاء بالتجربة.

يظن بعض أصحاب النوايا الحسنة، أننا، مساجين السياسي، مرابطون على قضية، متمسكون بحرابها.. آه لو أنهم يرون يوم القيامة الذي نعيش فيه وكل يقول نفسي نفسي. معركتنا هي أن نخرج من هنا، معركتنا ليست أي شيء أدخلنا إلى هنا.

 أول مقاومة ممكنة للسجين هي مقاومة التأقلم ودوافعه التي هي أيضًا نتائجه: البؤس واليأس

حتى المزايدات على فترات السجن ومدد الحبس، ليست من باب المفاخرة بالتضحية، إنما من باب التمييز في نومة أو جلسة أو مأكل ومشرب أو علو صوت، معارك صغيرة على امتيازات سلب الحرية، حتى أنني أظن أن بعضهم في قرارة نفسه لا يريد الخروج من هنا.

المساجين فئران تجارب أو مشاركون عنوة في تجربة اجتماعية. من سينتصر أخيرًا هو الذي سيقاوم أن يتأقلم بالكلية مع محبسه وما فيه ومن فيه، دون أن يقع في حفرة اليأس.

اليأس طريق الموات، أعرف شخصًا، هو زميل زنزانة، قطع شرايينه حتى لا يرحلوه إلى سجن آخر. ثم عرفت أنه أمر شائع، أي إصابة الجسد أو حتى محاولة الانتحار منعًا للنقل والترحيل. تأقلموا مع زنازينهم جدًا، أكثر مما ينبغي، ثم قاوموا باليأس على مكتسب من قعر الحضيض.

 في القبر الذي عشت فيه بضع أسابيع، رأيت غافلين مكبلين بالأصفاد ليل نهار، يتشاجرون فيما بينهم على كسرة خبز وقطعة جبن. الساخر في الأمر أنهم يتشاجرون مع بعضهم بالأرقام، متأقلمين جدًا مع كونهم قد سحقت شخوصهم وألغيت أسماؤهم واستبدلوها بالأرقام، فكان رقم 63 مثلًا يتشاجر مع رقم 174 على أنه لم ينصف قسمة الجبنة التي وزعت عليهما مشتركة، أمر في غاية البؤس واليأس والتأقلم.

لذا ربما تكون أول مقاومة ممكنة للسجين هي مقاومة التأقلم ودوافعه التي هي أيضًا نتائجه: البؤس واليأس. ربما من ذلك البحث في سبل النجاة، وإن كان ثمة إدراك بأن لا شيء بالضرورة سيؤدي لشيء، خاصة وأنت تعلم أن قصة حياتك في يد البوليس السري. سريته كفيلة بوأد الآمال. وهذه مقاومة أخرى.

مقاومة النفس هي المقاومة الممكنة بضبطها عند حدود الضرورة وفهمها

هنا تصبح مقاومة النفس هي المقاومة الممكنة بضبطها عند حدود الضرورة وفهمها، أولًا لكي لا تخسر كل شيء، وثانيًا لإمكانية استئناف حياة بعد السجن بالحدود الممكنة.

لكل معركة ظروفها، ولكل حبسة ضوابطها، ولكل مقاومة حدودها، لتبقى الحرية في فهم الضرورة ووعيها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الميتافيزيقيا إن صارت علمًا

المساكين في مواجهة الطواعي