16-مايو-2021

فلسطين كلها قدس

منذ دخول فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة على خطّ المواجهة ضدّ العربدة الصهيونية في القدس المحتلّة وانتهاكات المستوطنين وقوات الاحتلال التي طالت المسجد الأقصى، برزت أصوات عربية، وأخرى فلسطينية، لا ترى في هذا التدخّل نفعًا لصالح الزخم الذي حققه المقدسيّون، وحالة التعاطف التي انتزعوها عربيًا وعالميًا، عبر توجيه الضوء على واقع الاحتلال والتهويد والعنصرية في القدس، على وقع تقارير حقوقية عالمية حول "أبارتهايد" إسرائيلي متجاوز لكل الحدود، إضافة إلى بعض آراء مشروعة أخرى تخوّفت من ردّة الفعل الإسرائيلية الهمجيّة التي قد يتحمّل تبعتها أهل القطاع المحاصر، وأخرى تتخذ موقفًا مسبقًا من المقاومة ومن يمثلونها، من محور التطبيع وفرق التخلّي عن القضيّة الفلسطينية، التي لا ترى في إسرائيل خصمًا بالأصل.

لطالما سعت إسرائيل إلى عزل القدس وفصلها عن محيطها في سلسلة طويلة من عمليات حصارٍ وتضييق وتغيير، يكبح الروح الفلسطينية ويخنق إمكانات نموّها على مستوى العمران والإنسان

إلا أنّه سرعان ما تخبو فورة هذه الآراء بمجرّد أن تزول غمامة الوهم الأولى المتعلقة بحجم التأثير الفوريّ المأمول للرأي العام العالمي على قضيّة يعرف الفسطينيون أنها خطّ أحمر بالنسبة للإسرائيليين، في ظل الإجماع السائد حاليًّا في إسرائيل، والذي يظهر تصلّفها وثقتها بأنّه ما يزال بالإمكان تسويغ سياسات التطهير العرقي والاستمرار بها سياسيًّا وعمليًا، ما دام هنالك بين الغرب والعرب من ينأى عن إخضاع إسرائيل لنفس الميزان الأخلاقي والقانوني التي يتم التبجّح بفرضه على دول أخرى في العالم، ولاسيما مع استمرار الانحياز المستهجن لوكالات الإعلام الكبرى لإسرائيل وروايتها للأحداث. وقد رأينا كيف بادرت وكالات أنباء عالمية مرموقة، وبشكل مجاني وفجّ، نيابة عن إسرائيل، بتشويه الوقائع وتزويغ الحقائق، على نحو فاضح ومستفز، وكأنّها تقتل الضحيّة مرّتين، وتتقزّم أمام القضيّة الفلسطينية وعدالتها الصارخة، لتكاد تتحوّل أحيانًا إلى أبواق رخيصة للاحتلال، وتذكّرنا بإعلام البراميل السوري الرسمي أو الداعم له، أو إعلام بروباغاندا الثورات المضادة المعادية للتحرّر والديمقراطية.

كما تتراجع هذه الرغبة في التقييم والنقد للمقاومة وتحركاتها بمجرّد تذكّر الهمجية الكاسحة من طرف قوات الاحتلال، باستهدافها المدنيين في قطاع غزّة بما في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ، في دورهم ومستشفياتهم ومدارسهم، وموارد شربهم، ما يعيد التذكير برجحان كفّة المقاومة وشرعيّتها النضالية وأخلاقيتها، في صدّ العدوان، وكونها الوحيدة القادرة على إعادة شيء من التوازن في معادلة الرعب، ضمن رؤية مبدئية فلسطينية، ترى أن فلسطين كلّها محتلّة، وأن النضال ليس حصرًا على القدس وبعض أحيائها وأهلها، بل يشمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة كافّة، في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وحتّى في الداخل الفلسطيني، بل ولا يتجاهل حق الفلسطينيين في الشتات بأرضهم التي  اقتلعوا منها. 

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين؟ لنمرر تلك الجينة على الأقل

هذا الزخم الذي نجحت المقاومة في إحيائه على مستوى أرض فلسطين كاملة، وبالتزامن مع ذكرى النكبة، يحيل إلى الثوابت العامة التي يجمع عليها الفلسطينيون، وكل من يرى عدالة هذه المسألة الاستعمارية العالقة من العرب وغيرهم، وعلى رأس هذه الثوابت مركزية القدس في مشروع التحرر الفلسطيني، والتي تختزل المأساة الفلسطينية، بما يجري فيها من عمليات تهجير وتهويد وتطهير عرقي واحتلال وحصار وخنق للأحياء العربية، وسلبٍ للحق في تقرير المصير. فدولة الكيان، تستغل ومنذ العام 1948، مرورًا بالنكسة، ووصولًا إلى "اتفاقات أبراهام"، كل مساحات المراوغة والعربدة التنفيذية التي أتاحها التخاذل العربي الرسمي والتواطؤ الدولي، من أجل إتمام حلم تهويدها للقدس والسيطرة عليها كاملة ضمن رؤية ترى فيها عاصمة "موحّدة وأبدية" لليهود، وهو ما تزال بقيّة صامدة من أهل القدس الشرقية، وبإسناد اليوم من بقية الفلسطينيين، يقفون عائقًا أمام تحقّقه.

صحيح أن الأنظار قد تحوّلت لحظيًا من القدس إلى غزّة، بيد أن ذلك قد حصل ليوسّع إطار التعاطي مع الوضع الفلسطيني الراهن بمجمله، ويذكرّ بأن مهمة وقف مشاريع التهويد في القدس وتفريغ المدينة من محتواها الديمغرافي وطمس هويتها العربية، والتي ناءت بحملها السلطة الفلسطينية والأنظمة الرسمية العربية، هي مسؤولية الفلسطينيين جميعًا، وأن إنقاذ القدس لن يمرّ إلا عبر تحرير الإنسان الفلسطيني، على كامل الأرض الفلسطينية، وأن الوهم الإسرائيلي في "توحيد الضفتين" لن يتبدّد إلا بتوحّد الفلسطينيين في غزّة والضفة والداخل، وكلّه محتل. وفي حين طغا الممكن الوجدانيّ والرمزي على طبيعة التضامن والإسناد لقضيّة المقدسيين في الشيخ جرّاح، صار للممكن العمليّ الأوسع اليوم الكلمة العليا فلسطينيًا، بعد تدخّل المقاومة التي انطلقت صواريخها من قطاع يرزح تحت حصار وحشي لم يعرف التاريخ له مثيلًا، لتقول بأن فلسطين كلّها قدس، ومساجدها كلّها أقصى، وأحياؤها وقراها كلّها شيخ جرّاح.

اقرأ/ي أيضًا: ذكرى مختلفة.. ذكرى للمستقبل

لطالما سعت إسرائيل إلى عزل القدس وفصلها عن محيطها، جغرافيًا وقانونيًا وشعوريًا، في سلسلة طويلة من عمليات حصارٍ وتضييق وتغيير، يكبح الروح الفلسطينية ويخنق إمكانات نموّها على مستوى العمران والإنسان، وبوسائل وأساليب عنصرية في جوهرها، لضمان هشاشة الوجود الفلسطيني أمام عربدة الاستيطان التوسّعي، المسنود سياسيًا وقانونيًا وعسكريًا من دولة الاحتلال، ومن داعميها، وعلى رأسهم البيت الأبيض الأمريكي، والذي لطالما بارك وسوّغ ما تقوم به إسرائيل، في القدس وسواها، منذ النكبة، وصولًا إلى الحرب المفتوحة اليوم على قطاع غزّة، ولاسيما بعد تمرير "صفقة القرن"، تلك الطعنة الأكبر للفلسطينيين، ولأهالي القدس خاصّة، والتي شرعنت مجمل الجرائم التي اقترفتها إسرائيل في القدس، وكرّست التغيير الذي فرضته على المدينة، فلم تعد القدس عاصمة لإسرائيل وحسب، وهو ما شرّعته إسرائيل منفردة منذ عام 1980، بل صار بحكم المستحيل سياديًا بالنسبة لدولة الاحتلال ومشرّعيها، التنازل عن السيطرة الإسرائيلية في كامل المدينة، بشقيها الشرقي والغربي.

تتقزّم بعض وسائل الإعلام الغربية أمام القضيّة الفلسطينية لتتحوّل إلى أبواق رخيصة للاحتلال، لتكاد تذكّرنا بإعلام البراميل في دمشق أو بروباغاندا الثورات المضادة المعادية للتحرّر والديمقراطية.

لقد سارت المقاومة في غزّة، ضمن الظروف والمعطيات القائمة، على خط دقيق جدًا من التوازنات، لكنّها رغم ذلك نجحت، بفضل صمود أهالي غزّة وتضحياتهم، بإعادة الأمور إلى نصابها المطلوب، وليس أقل من ذلك اتّضاح الرؤية في الداخل الفلسطيني لما يجب أن يكون عليه شكل النضال في المرحلة المقبلة، من أجل انتزاع الحقّ الشرعي بالتحرر، وإنهاء حالة الحصار والانقسام، ونقض غزل التفاهمات التطبيعية مع الاحتلال، ونزع الشرعيّة عنها بالتذكير بالطبيعة الإجرامية والاستعمارية للكيان، وبثّ الحياة في مشروع التحرّر الفلسطيني واستعادة حقوق الفلسطينيين في الداخل والشتات، وإنعاش الأمل في إقامة دولة وطنية فلسطينية ديمقراطية ذات سيادة.  

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فلسطين هي الربيع العربي.. والعالمي أيضًا

القدس.. جمل المحامل في زمن الهزيمة