15-مايو-2021

73 عامًا: فلسطين ثورة.. فلسطين ربيع

اختارت المُنظمة الدولية "هيومن رايتس ووتش"، لتقريرها الصادر مؤخرًا في نيسان/ أبريل لعام 2021، العنوان الافتتاحي التالي: "تجاوزوا الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد"، وذلك في إشارة إلى الانتهاكات الجسيمة والمُمنهجة لحقوق الإنسان من قبل السلطات الإسرائيلية.

شمل التقرير الذي امتازت لغته بالتوصيف الحازم للممارسات الإسرائيلية، والذي أكدّ مرة تلو الأخرى على أنها تمييزية بشكل مؤسساتي، دراسة حالة حقوق الإنسان للفلسطينيين في كل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، والأراضي المحتلة عام 1948 (إسرائيل وفقًا للتسمية المعتمدة في التقرير).

يستعرض هذا المقال أهم النقاط الواردة في التقرير المذكور المخصصة لدراسة الأوضاع في القدس الشرقية. لكن بدايةً أود التنويه أن كتابة هذه السطور تتزامن مع ما تشهده فلسطين حاليًا من حِراك شعبي – فلسطيني، كانت نقطة انطلاقه من مدينة القدس، وقد تسارعت وتيرته بشكل مُطرد، تحديدًا في الأسبوع الأخير من شهر رمضان.


الوضع القانوني لمدينة القدس

في عام 1947، صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (181) المعروف بقرار التقسيم، والذي نصّ على انهاء الانتداب البريطاني لفلسطين بموعدٍ لا يتجاوز 1 آب/ أغسطس من عام 1948، بحيث تُنشأ دولتان بحدود معرفة: الأولى يهودية على 56% من مساحة فلسطين، والثانية عربية على ما يقارب 43% من مساحة فلسطين، على أن توضع مدينة القدس والأراضي المحيطة بها، والتي تُشكل 1% من مساحة فلسطين، تحت حكم دولي خاص، باعتبارها كيانًا منفصلًا "Corpus Sepratum"، تُشرف الأمم المتحدة عليها.

يكشف تقرير "هيومن رايتس ووتش"، عن وجود سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تعزيز هيمنة اليهود الإسرائيليين على الأرض

وعلى إثر الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في 14 أيار/ مايو 1948، ووقوع الحرب بين جيوش عربية دخلت فلسطين وإسرائيل، وكنتيجة نهائية للأعمال الحربية بين الطرفين التي استمرت لما يتجاوز العام، فقد استولت إسرائيل على نحو 77.4% من مساحة فلسطين الكلية كانت قد ضمتها إليها قبل الحرب وخلالها وبعدها.

وكان من ضمن المُدن التي استولت عليها إسرائيل، القسم الغربي من مدينة القدس التي أعلنتها عاصمة لدولة إسرائيل عام 1949، حيث قوبل هذا الإعلان بعدم الاعتراف من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أما القسم الشرقي من المدينة فقد خضع للحكم الأردني، وقد انعكس واقع الحال للمدينة في صيغة القرارات الدولية التي ميزت بين القدس الغربية والشرقية.

لاحقًا، وعلى إثر حرب حزيران/ يونيو عام 1967، أو النكسة، احتلت إسرائيل القدس الشرقية، بالإضافة إلى أراضِ أخرى منها الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما اعتبرته توحيدًا للمدينة. وعلى الرغم من صدور قرار مجلس الأمن رقم (242) داعيًا إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي المُستمر على المدينة منذ ذلك الحين قد شرع فورًا في تطبيق قوانينه عليها، مُنتهكًا بذلك قواعد القانون الدولي الإنساني ذات الصلة بالأراضي المحتلة واجبة التطبيق – قانون الاحتلال – الذي يَعتبر هذه الأراضي محتلة وإسرائيل سلطة احتلال، صاحبة سيادة فعلية على الأرض فقط وليس قانونية وفقًا لنص المادة (43) من اتفاقية لاهاي الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية.

وبالتالي، فإن هذه السيادة تُخولها سلطات محددة لا يحق لها الإخلال بها أو تجاهلها، ومن أهمها: عدم جواز تغيير القوانين السائدة في الأراضي المُحتلة أو الاعتداء على حقوق أهالي هذه الأراضي، كما لا يُسمح لسلطة الاحتلال بسن أي تشريع أو ممارسة أي اختصاص تشريعي إلا في نطاق محدود بما يُراعي مصالح السكان، والحفاظ على الأمن والنظام العام، وحظر عمليات النقل الجماعية أو الفردية للسُكان من الأرض المُحتلة أو داخلها، وحظر عمليات نقل السُكان المدنيين التابعين لسلطة الاحتلال إلى الأرض المحتلة، بغض النظر عن كون هذا النقل قسريًا أو طواعية، وحظر مصادرة الممتلكات الخاصة لسكان الأراضي المحتلة.

على أية حال، وفي تطور مهم، أصدر الكنيست الإسرائيلي "البرلمان" عام 1980 قانون القدس، أو ما يُعرف بـ "قانون أساس: أورشليم القدس عاصمة إسرائيل"، والذي اعَتبَر أن القدس الكاملة والموحدة – أي بشقيها الغربي والشرقي – عاصمةً لدولة إسرائيل، وهو ما دفع مجلس الأمن إلى اصدار قراره رقم (478)، الذي لم يعترف بالقانون الأساسي المذكور والأعمال الأخرى المماثلة لإسرائيل، التي تسعى بموجب هذا القانون إلى تغيير صفة ووضع القدس.

وفي قرار آخر لمجلس الأمن، أكد من جديد على الضرورة الملحة لإنهاء الاحتلال المطول للأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، وأن جميع التدابير التشريعية والإدارية والإجراءات التي اتخذتها إسرائيل السلطة القائمة بالاحتلال، والتي ترمي إلى تغيير طابع ووضع مدينة القدس الشرقية، ليس لها شرعية قانونية وتشكل انتهاكًا صارخًا لاتفاقية جنيف الرابعة. والتأكيد على أن جميع هذه التدابير التي غيَّرت الطابع الجغرافي والديمغرافي والتاريخي ووضع مدينة القدس المقدسة، باطلة ولاغية ويجب إلغاؤها وفقًا للقرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن.

يُعتبر تعزيز الهيمنة اليهودية في دولة إسرائيل من الأهداف التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة

ومن التأكيدات القانونية الدولية أيضًا على الوضع القانوني لمدينة القدس الشرقية، ما ورد في الفتوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية عام 2004 بشأن "الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأرض الفلسطينية المحتلة"، والتي أكدت على سريان القانون الإنساني الدولي على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وبالتالي ضرورة احتكام الاحتلال الإسرائيلي في سياساته والتزامه بمحددات سلطات الاحتلال المتقدم ذكرها.

حالة حقوق الإنسان في القدس

يكشف تقرير "هيومن رايتس ووتش"، عن وجود سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تعزيز هيمنة اليهود الإسرائيليين على الأرض لخلق ميزان ديموغرافي لصالحهم. ولتحقيق هذا الهدف، فإن الحكومة الإسرائيلية تمارس تمييزًا مؤسسيًا ضد الفلسطينيين على مستويات عديدة. فعلى مدى سنوات الاحتلال الـ 54 الماضية، سهلت السلطات الإسرائيلية نقل اليهود الإسرائيليين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما ينتهك حظر نقل مواطني سلطة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة بموجب القانون الإنساني الدولي، تحديدًا اتفاقية جنيف الرابعة. هذا بالإضافة إلى سير الحكومة الإسرائيلية قدمًا وبدون هوادة، في تهويد المناطق التي يسكنها عدد كبير من الفلسطينيين، بما فيها القدس الشرقية، من خلال انشاء مشاريع استيطانية.

حيث يُعتبر تعزيز الهيمنة اليهودية في دولة إسرائيل من الأهداف التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة. فتشريعيًا، مثلًا، نجد "إعلان دولة إسرائيل، وثيقة الاستقلال"، الذي نصّ على إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل مشددًا على يهودية الدولة، ووجود قوانين أساسية أخرى تنص على ترسيخ قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية مثل "قانون أساس: الكنيست 1958".

وفي السنوات الأخيرة، صدر "قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي"، الذي حدد ضمن مبادئه الأساسية أن إسرائيل وطن قومي للشعب اليهودي فقط الذي يملك وحده حق تقرير المصير القومي في أرض دولة إسرائيل، بالإضافة إلى اعتبار تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية يتم تشجعيه وترسيخه. هذا إلى جانب سَن رزمة من القوانين العادية التي عززت مسعى الهيمنة من أشهرها: قانون العودة لعام 1950 الذي أعطى الحق لليهود الحاملين لجنسيات أخرى حق الاستقرار في إسرائيل، مع حرمان اللاجئين الفلسطينيين من خيار الدخول إلى إسرائيل والعودة إلى ديارهم التي هُجروا منها. هذا فضلًا عن خطابات وتصريحات لرؤساء وزراء إسرائيليين متعاقبين تعكس أيضًا هذه الرؤية، وذلك مثل تصريح بنيامين نتنياهو عام 2019 الذي أكد على أن "إسرائيل ليست دولة لجميع المواطنين بل دولة قومية للشعب اليهودي فقط".

هذا الهَوس بالعامل الديموغرافي يتجلى في خطط الحكومة أيضًا، ففي القدس حدّدت خطة الحكومة الإسرائيلية لبلدية القدس – وتشمل غرب المدينة وشرقها – هدف الحفاظ على أغلبية يهودية متينة في المدينة، والعمل على تركيبة ديموغرافية قوامها 70% يهود، و30% عرب، قبل أن تُعدّل في وقت لاحق لتصبح النسبة 60:40، بعد أن أقرّت السلطات بأن هذا الهدف غير قابل للتحقق في ضوء الاتجاه الديموغرافي.

وفي عام 1993، تم اتخاذ قرار برسم حدود لمدينة القدس الكبرى والشروع في بناء أحياء استيطانية جديدة، كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية في عام 2016 عن خطة لتطوير تهويد القدس تشتمل على انشاء مشاريع استيطانية، وقطار هوائي، وبناء الآلاف من الوحدات الاستيطانية في القدس الشرقية المحتلة، وفي هذا تحدٍ واضح لقرارات عديدة صادرة عن مجلس الأمن، التي أكدت على عدم قانونية المستوطنات الإسرائيلية المُقامة في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة منذ عام 1967 غير قانونية، وهو ما أكدّت عليه أيضًا فتوى محكمة العدل الدولية المذكورة.

حق الإقامة الممنوح للمقدسيين مشروط وقابل للإلغاء بينما تضمن الحكومة الإسرائيلية حق الإقامة للمستوطنين اليهود

كل هذه السياسات والخطط والتشريعات الماضية قُدمًا لتحقيق الهيمنة اليهودية الإسرائيلية في القدس، يرافقها انتهاكات جسيمة لحقوق الفلسطينيين في القدس الشرقية، يذكر منها:

  1. حق الإقامة الممنوح للمقدسيين مشروط وقابل للإلغاء بينما تضمن الحكومة الإسرائيلية حق الإقامة للمستوطنين اليهود، حيث طبّقت إسرائيل على القدس الشرقية منذ احتلالها قانون الدخول لعام 1952 على المقدسيين الذين كانوا يعيشون هناك وصنفتهم كمقيمين دائمين وهو نفس الوضع الممنوح لأي أجبني غير يهودي ينتقل إلى إسرائيل، وقد أسقطت إسرائيل بالفعل عن آلاف المقدسيين حق الإقامة لأن أغلبهم لم يتمكنوا من إثبات مركز حياتهم في المدينة. كما وضعت وزارة الداخلية الإسرائيلية عقبات بيروقراطية منظمة ومنهجية لرفض طلبات الإقامة ولَم الشمل للعائلات الفلسطينية معززة بقوانين عديدة منها: "قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل –أمر الساعة" المُقر عام 2003، والذي يمنع منح الإقامة الدائمة لفلسطيني الضفة الغربية وغزة المتزوجين من مواطنين إسرائيليين أو مقيمين في إسرائيل إلا باستثناءات قليلة.
  2. وضع عقبات وتعقيدات اجرائية وقانونية ومالية لمنح تصاريح ورخص بناء للمقدسيين، ما جعل الآلاف منهم إما يغادرون منازلهم في القدس الشرقية إلى مناطق أخرى بشكل يرقى إلى النقل القسري، أو البناء بدون الحصول على هذه التصاريح بسبب استحالة استصدارها في أغلب الحالات، الأمر الذي استغلته السلطات الإسرائيلية على مدى عقود كذريعة لهدم ممتلكات لمقدسيين بحجة المخالفة، وذلك في انتهاك صارخ لقانون الاحتلال الذي يحظر تدمير ممتلكات سكان الأراضي المُحتلة إلا للضرورة العسكرية. كما هدمت بيوتًا كعقاب جماعي للعديد من أسر المقدسيين في الحالات التي يُشتبه قيام أحد أفرادها بمهاجمة إسرائيليين.
  3. التهجير القسري للمقدسيين من خلال الاستيلاء على منازلهم وممتلكاتهم ونقل ملكيتها إلى مستوطنين إسرائيليين بدعم من مؤسسات دولة إسرائيل المختلفة وعلى رأسها المحاكم الإسرائيلية (مثل التهجير المحتمل الذي تواجهه حاليًا عائلات مقدسية في حي الشيخ جراح الواقع في شمال البلدة القديمة في القدس الشرقية).

هذا بالإضافة إلى ممارسات أخرى تصل أحيانًا كثيرة إلى حد القتل والاعتقال التعسفي، وكل ذلك يتم ارتكابه تحت مزاعم أمنية تبررها السلطات الإسرائيلية.

على ضوء استعراض تقرير "هيومن رايتس ووتش" للممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، والهادفة إلى تحقيق هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، خلص التقرير إلى اعتبار السياسات الرسمية الإسرائيلية الممنهجة القائمة على التمييز ضد الفلسطينيين، والانتهاك الجسيم لحقوقهم، جرائم فصل عنصري واضطهاد لتحقق عناصرهما، حيث تندرجان تحت بند الجرائم ضد الإنسانية، وهي إحدى الجرائم شديدة الخطورة التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة، والتي يمكن اعتبارها كأساس مُحرِك للمسؤولية الجنائية الدولية.