13-نوفمبر-2022
استخفت النخب العربية بالمسألة البيئية (Getty)

استخفت النخب العربية بالمسألة البيئية (Getty)

مثل غيرها من الأيدلوجيات السياسية وتياراتها الحديثة والمعاصرة، وصلتنا أفكار "البيئية" من الغرب. وإن كانت تلك الاتجاهات السياسية وحركاتها ليست بالضرورة حكرًا على المجتمعات الغربية، فإن مدخلنا إليها يظل محكومًا بالمنظور الغربي وسياقاته ومراجعه باللغات الأوروبية الرئيسية. في عقد التسعينات، شرع القائمون على المناهج الدراسية في بعض من دول منطقتنا في تضمين إشارات مقتضبة إلى الموضوعات البيئية في مراحل التعليم الأساسية، وتركزت تلك التضمينات على انفجار تشيرنوبل وثقب الأوزون. في التوقيت ذاته، بدأ تكوين عدد من الجمعيات الأهلية المعنية بالبيئة وبضعة أحزاب "خضراء" محلية، ولحق بذلك تأسيس وزارات للبيئة بنهاية العقد، وكان ذلك مرتبطًا في معظمه بمشاريع المعونات والتعاون الخارجية ومقررات المؤسسات الدولية.

أي عمل سياسي على أسس إيكولوجية سيتطلب الحد الأدنى من الحريات الأساسية، حرية التعبير والولوج إلى البيانات والتنظيم والعمل السياسي

على سبيل المثال، تأسس حزب الخضر المصري في العام 1990، وهو الحزب الذي ظل على هامش السياسية دائمًا، وبعد عدة سنوات صدر قرار جمهوري بتشكيل وزارة للبيئة في العام 1997. أما في تونس حيث نال موضوع البيئة رعاية نظام بن علي بحماسة نادرة، فإن حملة شعارها "لبيب للبيئة حبيب" والتي نصب بموجبها عشرات من المجسمات لثعلب الفنك، في ميادين وتقاطعات المدن والقرى التونسية، انطلقت في العام 1992، وصاحبها حملات توعية في المدارس وإعلانات تلفزيونية، واستمرت حتى العام 2012، فبعد الثورة توقفت أنشطتها باعتبارها من تركة النظام السلطوي، أما مجسمات لبيب فقد تم تحطيم الكثير منها للسبب نفسه.

وباستثناء تونس التي تماهى فيها الموضوع البيئي مع الديكتاتورية بشكل جلي، في ظاهرة يمكن تسميتها بـ"البيئية الاستبدادية"، فإن السياسات الخضراء ظلت مرتبطة في الأذهان في منطقتنا، بتصورات تربطها بدوائر مرفهة ذات ثقافة غربية، وبالأخص الطبقة البرجوازية المدينية، وبمبادرات وحملات محدودة تتعلق بالنظافة العامة والتشجير ومعدلات تلوث الهواء في المناطق الحضرية، أو بتنظيم المحميات الطبيعية وتجريم الأنشطة الاقتصادية في نطاقها، وهو ما اعتبره السكان المحليون تضييقًا عليهم في أحيان ليست بالقليلة. وفي معظم الأحوال، استقبل المواطنون أنشطة الهيئات الحكومية المعنية بالبيئة بوصفها إجراءات بيروقراطية ذات طبيعة صورية.

على مستوى الإنتاج الفكري والجدالات الأيدلوجية، نبذت البيئية من اليمين ومن اليسار على السواء، أو على الأقل لم تنل أهتمامًا يذكر في مجتمعاتنا. فصعود السياسات الخضراء في المجتمعات الغربية في السبعينات جاء في سياق تشكل الحركات الاجتماعية الجديدة، وهي ما كانت وليدة لإزاحة سياسية نحو "ما بعد المادية" في ظل اقتصاديات تجاوزت الحقبة الصناعية إلى ما بعدها، أي اقتصاد الخدمات والمعلومات.

وفي ذلك السياق، قامت دولة الرفاه وبحبوحة ما بعد الحرب العالمية الثانية واستقرار التداول السلمي للسلطة في الغرب بترسيخ الأمان المادي والاجتماعي والحريات الأساسية كمعطيات مضمونة بالضرورة، مما حول البؤرة السياسية بعيدًا عن الصراع الطبقي إلى محاور الفردية والتعبير الهوياتي، وكذا إلى موضوعات الإيكولوجيا والعدالة البيئية والاقتصاد المستدام. يمكن اعتبار ذلك التحول علامة على ترقي أشكال الصراع السياسي في الاقتصاديات الكبرى، في تجاوزها الحاجات الأساسية الملحة والآنية إلى ما هو أبعد، أي المطالبات الثقافية والروحية والسعي نحو عيش أكثر تناغمًا، وفي دفعها بالنظر إلى المستقبل نحو تنمية مستدامة وحفظ لموارد الطبيعة وغناها على المدى الطويل للأجيال القادمة.

لكن وفي مجتمعات لم يكتمل تطورها الصناعي ولا تحولها الديمقراطي، تبدو المسألة الإيكولوجية مجرد رطانة أو رفاهية مستوردة. وفي ظل تقسيم عالمي للعمل يترك للدولة الأكثر فقرًا مهمة الأنشطة الاقتصادية الرخيصة وشديدة التلويث للبيئة، تتعارض الأجندة البيئية على الأقل في الظاهر مع خطاب التصنيع الوطني الموروث من دولة الاستقلال، وكذا مع مصالح مجتمع الأعمال، وتعاكس ترويجات الرأسمالية الوطنية عن تدفق الاستثمارات الخارجية والمشروعات الضخمة والتنمية بحسب المؤشرات الاقتصادية الكلية.

 أما من جهة اليسار التقليدي، فإن موضوع البيئة عادة لا يأخذ على محمل الجد، بل وتتم مهاجمته، مرة باعتباره حرفًا عن أولوية الصراع الطبقي، ومرة أخرى باعتبار دول الجنوب غير مطالبة بالتصدي للكارثة البيئية التي تسببت فيها دول الاستعمار القديم، وبهذا المنظور يتم انتقاد الخطاب البيئي العالمي بوصفه خطابًا استعماريًا جديدًا، يعمد إلى إعفاء الدول الكبرى من مسؤوليتها، بتوزيع أقساطها على الضحايا والمتضررين. وهكذا يقتصر الاهتمام بالمسألة البيئية على خطاب "ما بعد كولونيالي"، يتمحور في معظمه على المطالبة بتعويضات الضرر والخسائر من الدول الكبرى.

باستثناء تونس التي تماهى فيها الموضوع البيئي مع الديكتاتورية بشكل جلي، فإن السياسات الخضراء ظلت مرتبطة في الأذهان في منطقتنا، بتصورات تربطها بدوائر مرفهة ذات ثقافة غربية

التحول من البيئية إلى المناخية في الخطاب الإيكولوجي خلال العقدين الأخيرين، يعني أن الأمر لم يعد مقتصرًا على صون الموارد والتنوع البيئي وتحسين جودة الحياة، بل يتعلق بشأن مصيري هو كارثة الاحترار المناخي وتبعاتها على إمكانية الحياة البشرية على الأرض. ستتحمل منطقتنا الأضرار الأكبر من التغير المناخي، وكذلك سيشعر سكانها بتلك التبعات قبل غيرهم في دول الشمال. إلا أن هذا وحده ليس كفيلًا بتطور خطاب إيكولوجي محلي وإقليمي، فغير الحاجة إلى استكشاف الإمكانات الراديكالية التي تزخر بها السياسة الإيكولوجية، من عناصر اللامركزية والديمقراطية التشاركية والتوزيع العادل للموارد وإحلال مجتمع السوق والتضامن العابر للحدود، فإن أي عمل سياسي على أسس إيكولوجية سيتطلب الحد الأدنى من الحريات الأساسية، حرية التعبير والولوج إلى البيانات والتنظيم والعمل السياسي.