31-يناير-2024
مظاهرة مناصرة لغزة أمام مقر نيويورك تايمز

(Getty) مظاهرة مناصرة لغزة أمام مقر نيويورك تايمز

"صحيفة واشنطن بوست تردد حماس كالببغاء"، بهذه الكلمات عنونت لجنة الدقة في إعداد التقارير عن الشرق الأوسط في أمريكا، (المعروفة اختصارًا بـ "كاميرا")، وهي منظمة ضغط إسرائيلية تضغط على الصحف وتمارس عليها مختلف أنواع المضايقات لتأمين تغطية متسقة مع المباغي الإسرائيلية، آخر تقاريرها التي تنتقد سلوك الصحيفة الأمريكية في تغطيتها للحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة منذ أربعة أشهر.

وكانت مآخذ المنظمة في اتهامها للصحيفة الأمريكية في التقرير هي أنها تعتمد في قصصها على الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة "المُتحكَّم بها من قبل حماس"، التي، وبحسب ادعاء المنظمة، تتعمد تضخيم الأرقام بهدف "توليد ضغوط دولية على إسرائيل.. وتقوية موقف أعداء الدولة اليهودية في تصويرها على أنها شريرة". لتخلص في نهاية تقريرها إلى أن "الثقة في الإرهابيين هي صحافة سيئة؛ لكن بالنسبة لصحيفة واشنطن بوست، فالأمر مجرد ضرورة شكلية".

واشنطن بوست وتخليها عن "الحقيقة" الإسرائيلية

لم تكن "كاميرا" الجانب الوحيد الذي أخذ على واشنطن بوست ذلك، إذ قالت مجلة "ناشونال ريفيو" الأمريكية اليمينية في تحليل مطوّل إن تغطية صحيفة واشنطن بوست للحرب بين إسرائيل وحماس كانت "بمثابة دراسة حالة في الارتباك الأخلاقي والتحيز ضد إسرائيل، وفقًا لخبراء السياسة الخارجية والعسكريين الذين يجادلون بأن الصحيفة الشهيرة انتهكت، على أساس يومي تقريبًا، المبادئ الصحفية التقليدية". بالإضافة لانتقادها بسبب استضافة ناشطين مناهضين لإسرائيل.

كما وجه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى عددًا من التساؤلات والتهم لصحيفة واشنطن بوست، على خلفية نشرها مقالة حوّلت قصة "لطيفة" إلى هجوم ضد إسرائيل، بحسب وصف المعهد؛ قصة الأطفال الرضّع الذين كانوا يتلقون العلاج في مستشفيات الضفة الغربية وإسرائيل قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وانفصلوا عن أمهاتهم داخل قطاع غزة جرّاء إغلاق الحدود وإطباق الحصار في أعقاب "طوفان الأقصى".

هناك انتقادات لتحيز واشنطن بوست ضد إسرائيل في تغطيتها للحرب، على الرغم من أن الواقع يظهر العكس تمامًا

إذ عبّر روبرت ساتلوف، مدير معهد واشنطن، عن استيائه من تركيز الصحيفة على المحنة "المزعومة" للأمهات بدلًا من رفاهية الأطفال، وكذلك من استخدام الصحيفة مصطلح "حرب إسرائيل وغزة" بدلًا من "حرب إسرائيل وحماس" في تغطيتها.

كانت تلك بضعة أمثلة من جملة انتقادات وصلت لواشنطن بوست من قبل مؤسسات ومنظمات إسرائيلية -أو داعمة صراحةً لإسرائيل- بسبب تغطيتها للحرب الجارية على غزة، مثل تقرير منظمة "أونست ريبورتينغ" التي حملت على الصحيفة تحقيقها في مزاعم الجيش الإسرائيلي بوجود أنفاق ومقار عسكرية أسفل مستشفى الشفاء وتسليطها الضوء على حجم ضحايا الحرب من الأطفال ووصف الأسرى الفلسطينيين الذين خرجوا في الصفقة الأخيرة بـ "المدنيين"، في ما وصفته بتخلي الصحيفة عن "الحقيقة" و"الإنصاف".

توحي تلك الحالات بأن صحيفة واشنطن بوست كانت مجحفةً بحق إسرائيل في تغطيتها للحرب أو منصفة للفلسطينيين، بيد أن الواقع لا يحكي إلا العكس، فمنذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، كان الصحيفة واحدةً من أولى الصحف الغربية التي سقطت في اختبار المهنية وأظهرت انحيازًا واضحًا -وعنصرية في بعض الأحيان- ضد الفلسطينيين. إذ خصصت صفحاتها الافتتاحية في الأيام الأولى من الحرب لاقتباسات نتنياهو ووزراءه، مع تجاهل شبه تام لما كان يحصل في غزة حينها.

وفي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، نشرت الصحيفة رسمًا حمل عنوان "دروع بشرية"، ويصوّر أحد أعضاء حماس وهو متدرّع بأطفال ونساء حول جسده الممتلئ والضخم، وقد كتبت على الرسم عبارة تقول: "كيف تجرؤ إسرائيل على مهاجمة المدنيين"، بمضمون يعني "كيف يمكن لإسرائيل (التي تدافع أبدًا ودومًا عن نفسها) اعتبار هؤلاء مدنيين؟". الأمر الذي أثار موجة واسعةً من الانتقادات أدت إلى تراجع الصحيفة عن نشر الرسم وحذفه لاحقًا.

حتى أن تحليلًا كميًا أجراه موقع "ذا إنترسبت" الأمريكي لتغطية واشنطن بوست ونيويورك تايمز ولوس آنجلس تايمز في 1000 مادة إعلامية نشرتها الصحف الثلاث حول الحرب، خلص إلى أنه تم ذكر الإسرائيليين أكثر بـ 16 مرة من الفلسطينيين، كما تم استخدام "مصطلحات عاطفية للغاية"، عند تغطية إسرائيل، مثل "مذبحة" (slaughter)، و"مجزرة" (massacre)، و"مروعة" (horrific)، وكانت "مخصصة بشكل شبه حصري للإسرائيليين الذين قُتلوا على يد الفلسطينيين، وليس العكس".

لكن كما يتضح، لم يكن كل ذلك كافيًا ليقي صحيفة واشنطن بوست من الضغوطات الإسرائيلية، وبعد حوالي أربعة أشهر من السقطات المهنية في سبيل التماهي مع الرواية الإسرائيلية، تجد تغطيتها توصف بـ "المُخجلة"، من قبل زعماء جماعات الضغط.

نيويورك تايمز و"زوال آثار الموضوعية"

بالمثل، لم تسلم الصحيفة الأمريكي الكبرى الأخرى، نيويورك تايمز، من نيران الانتقادات. إذ ساءلت صحيفة "التأريخ اليهودي" (Jewish Chronicle) قدرة الصحفيين في صحيفة نيويورك تايمز -وغيرها- من المؤسسات الإعلامية الأمريكية على مراجعة ذواتهم بعد "ابتلاعهم بكل سذاجة البيان الصحفي الذي أصدرته حماس والذي جاء فيه أن إسرائيل كانت وراء تفجير المستشفى الأهلي الذي أدى إلى مقتل 471 شخصًا. بينما قالت أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأمريكية والغربية، في الواقع، إنه صاروخ من حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية".

وقالت الصحيفة إن حتى "آثار" الموضوعية في تغطية الصحفية للحرب في غزة أصبحت الآن في طي النسيان. والسبب؟ مجددًا، اعتمادها أعداد الضحايا التي تنشرها وزارة الصحة في غزة دون تشكيك أو تدقيق. فيما انتُقدت الصحيفة عندما أوضحت أنها تنقل وصف الجيش الإسرائيلي عمّن وصفهم بـ "الرهائن" في أحد مقاطعه في محيط مستشفى الشفاء، دون تسليمٍ أعمى بتلك الرواية وتبنِّ لها، رغم ما تكشّف لاحقًا من هشاشتها.

وفي أشهر الحرب الأخيرة، فرضت منظمة "كاميرا" تغييرين على الأقل في صحيفة نيويورك تايمز، التي تستجيب أحيانًا للمنظمة بتعديلات طفيفة وأحيانًا بتصحيحات رسمية ترفقها بملاحظة من المحرر. إذ أزالت التايمز استخدام مصطلح "الاحتلال" من وصف القوات العسكرية الإسرائيلية، وأجرت تصحيحًا للغة التي وصفت بها القتلى الفلسطينيين في غزة في إحدى قصصها، إذ أزالت كلمة "مدنيين" (Civilians) وأبقت على "ضحايا" (Casulties).

في أشهر الحرب الأخيرة، فرضت منظمة "كاميرا" تغييرين على الأقل في صحيفة نيويورك تايمز، التي تستجيب أحيانًا للمنظمة بتعديلات طفيفة وأحيانًا بتصحيحات رسمية ترفقها بملاحظة من المحرر

ووصفت المدونة في صحيفة تايمز أوف إسرائيل جان شور "الانحياز ضد إسرائيل" في تغطية صحيفة نيويورك تايمز بـ "الأمر المُختبر تجريبيًا" وليس مجرد "بارانويا يهودية"، مستندةً بذلك إلى دراسة أجراها البروفيسور إيتان جلبوع من جامعة بار إيلان الإسرائيلية، والكاتبة في صحفية معاريف الإسرائيلية ليلاك سيغان، والتي رصدت التغطية اليومية لإسرائيل في صحيفة نيويورك تايمز وخلصت إلى أنها كانت "مجحفة" أمام حجم وعدد الأحداث والأخطار الوجودية التي تعرضت لها إسرائيل، لتخلص الكاتبة بالقول إلى أن الصحيفة تتمتّع بقدرٍ عالٍ من الحرفية في تقديم خدمات علاقات عامة على أعلى مستوى لحماس وحزب الله وإيران، وتبييض النوايا القاتلة لجيران إسرائيل.

وكان آخر ما تعرّضت له الصحيفة من ضغوطات في هذا الصدد هو منع بث حلقة من برنامجها الصوتي الأكثر شعبية، بودكاسات "ذا دايلي" كان من المخطط بثها في التاسع من كانون الثاني/يناير الجاري. إذ طرح فيها فريق إعداد البودكاست زاوية جديدة وقدّم مساحة لمسائلة الشهادات والمعلومات الواردة في تحقيق الصحيفة الذي نُشر نهاية العام الماضي حول استخدام حماس العنف الجنسي كسلاح في هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ولاقى انتقاداتٍ واسعة بسبب إنكاره من قبل عدد من الشخصيات الإسرائيلية الواردة فيه وضعف الأدلة، لكن منظمة كاميرا حالت دون نشر الحلقة، حسبما أفاد به موقع "ذا إنترسبت" الأمريكي.

يبقى مثيرًا للاهتمام أن صحيفة مثل نيويورك تايمز ما زالت تتعرّض لهذا النوع من الانتقادات العلنية والضغوطات، وهي التي تماهت تمامًا خلال هذه الحرب -وطوال تاريخها- مع السردية الإسرائيلية، عبر التفاوت في التغطية بين الجانبين الذي وضحه التحليل الكمي آنف الذكر أعلاه، إلى التلاعب المستمر بالعناوين والصياغات، المتلبّس بلبوس الصوابية وتحرّي الموضوعية، وحتى مقالات الرأي التي اتفقت عمومًا على التمهيد لإبادة جديدة بحق سكّان قطاع غزّة، والحرص على تجاهل أصل مأساتهم وعقود القهر الطويلة التي عاشوا خلالها.

الأكثر إثارة للاهتمام، وربما ضرورة لطرح السؤال، هو ما الذي تريده الجهات التي تقف وراء هذه الضغوطات وحملات التحريض ومحاولات تشويه السمعة، أكثر من تلك الصحف التي أثبتت أنها وقّعت على بياضٍ لنقل كل ما يصدر عن الجانب الإسرائيلي والترويج له، ووضعت سمعتها أمام العالم على المحك إرضاءً له؟ ربما تكون الإجابة أبسط من السؤال نفسه.