02-يونيو-2021

رسم لـ كياو ثو يين/ ميانمار

انتعش سؤال الالتزام في سنوات الحرب الباردة، وقد استتبع ذلك أن أصبحت علاقة المثقفين بالسياسة، وبالسلطة تاليًا، معيارًا أساسيًا في التصنيف والفرز، وهو ما لخصه السيد ياسين في عنوان أحد مقالاته: فالمثقف إزاء السلطة إما أن يكون "ناقدًا أو مبررًا أو متفرجًا".

لخّص الكاتب المصري السيد ياسين أدواء المثقف إزاء السلطة قهو إما أن يكون ناقدًا أو مبررًا أو متفرجًا

ثمة كتّاب رأوا في السياسة ميدانًا للشأن العام، وفي الانشغال بها علامة على الوجود في هذا العالم، ولكنهم وقفوا على مسافة كافية من السلطة (بل وقفوا في مواجهتها غالبًا) ليمتلكوا جرأة النقد وحرية طرح الأسئلة واقتراح الإجابات. وهناك، بالمقابل، أولئك الذين عملوا موظفين في أجهزة السلطة أو لدى الأحزاب والمنظمات السياسية المختلفة، يترجمون رغباتها ومصالحها في شعارات وكبسولات دعائية، متحولين إلى رجال دعاية أكثر من كونهم مثقفين. وثالثًا هناك الذين دفعتهم عزلتهم عن السياسة، ونأيهم عن التأثير في المجتمع، إلى نوع من افتقاد الحس التاريخي والعجز عن فهم متغيرات الواقع واستيعاب مستجداته، فراحوا يبررون هذا القصور باللجوء إلى التعالي على السياسة وشؤونها فـ"السياسي يهتم بالجزئيات والشؤون الإجرائية، فيما هم أمناء على الكليات والضرورات الكبرى والسياق العام للتاريخ"، وبدافع من هذا الوهم كانوا ينتجون خطابات إنشائية لا تقول شيئًا فعليًا في معظم الأحيان.

اقرأ/ي أيضًا: أمّ المؤامرات

غير أن كثيرًا من المياه (ومن الدماء أيضًا) قد جرت منذ نهاية الحرب الباردة، والسنوات العشر المنصرمة حملت إلى المنطقة العربية حراكًا تاريخيًا مزلزلًا، ما يجعلنا نفترض خلخلة في كثير من الصيغ القديمة المستقرة، وبينها تلك الصيغة التي حكمت علاقة المثقف بالسلطة.  

في مقال شهير، بعنوان "لماذا أكتب"، يلاحظ جورج أورويل أن الكتاب إذ يواجهون عملية تاريخية ما، فإنهم يتوزعون عادة على ثلاثة مواقف: إما أن يتجاهلوها، أو أن يكافحوا ضدها، إضافة إلى أولئك القائلين (نعم) والذين يقفزون إلى الأمام محاولين تصدر هذه العملية.

تبدو ملاحظة أورويل قابلة للاستخدام في وضعنا الراهن، فالمبدعون والمثقفون العرب توزعوا بالفعل على المواقف "الأورويلية" الثلاثة: هناك من يكافح ضد هذه المستجدات العارمة، مسكونًا بالحنين إلى الاستقرار المريح والذي يعفي من المسؤولية والخيارات الصعبة، أو مهوسًا بالخوف من القادم، أو خائفًا على موقع ودور قد لا يعوضان. وهناك من قفز إلى الأمام محاولًا تصدر المقدمة، عن إيمان وقناعة، أو عن توهم التشبث بالمستقبل والسير في ركاب التاريخ..

ويبقى اللافت هم أصحاب الموقف الثالث، الذين قرّروا ببساطة تجاهل كل ما يجري. يمضون في إنتاج كتبهم ونصوصهم وكأن شيئًا لم يحدث، وكأنهم أرباب مهنة كسدت بسبب انصراف الناس إلى مشاغل أخرى مستجدة، فقرروا متابعة شغلهم وتكديس "بضائعهم" على أمل عودة الناس عما هم فيه ليشتروا منهم.

والأدهى أن بعض هؤلاء يفاخرون بأنهم لا يعرفون شيئًا عن العالم خارج بيوتهم، معتقدين أنهم بذلك يغروننا بقراءة أدبهم النظيف المترفع عن أوساخ الدنيا.

ولكن ما الذي ننتظره من كاتب يزدري العالم وشؤونه، ويترفع عن القضايا التي تهم معظم الناس، ولا تؤرقه أي من أزمات الحياة؟!

كلما تعمقت عزلة الكاتب وازداد إحساسه بالعجز عن المواكبة والتفاعل، يزداد تعاليه وتعلقه بوهم الطليعية

هذا مفهوم قديم للكتابة، للأدب خاصة، حيث الكاتب الزاهد المعتكف في صومعته منتظرًا الوحي الذي يمده بالأفكار المجردة والخيالات المجنحة.. يقرأ الكلمات ويعيد صياغتها في كلمات أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: النقد الآمن

وثمة علاقة طردية هنا، فكلما تعمقت عزلة الكاتب وازداد إحساسه بالعجز عن المواكبة والتفاعل، يزداد تعاليه وتعلقه بوهم الطليعية وإصراره على النظر إلى العالم من فوق، من الأعلى.

بالطبع للكاتب أن يقف أنى شاء، ولكننا نتحدث من زاوية القارئ الذي يملك الحق في المساءلة، ملوحًا بالسلاح الأمضى: الإهمال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شيء عن دور المثقف المقولب

غرامشي والثقافة الشعبية.. الدرس الغائب عن "المثقف" العربي