17-ديسمبر-2018

تُظهر قوانين الجرائم الإلكترونية شيئًا من بنية القمع في دولة ما بعد الاستقلال العربية

في مثل هذا اليوم، أي في 17 كانون الأول/ديسمبر قبل ثماني سنوات، أشعل محمد البوعزيزي، الشاب التونسي الغاضب من الفقر والإهانة والقمع والإذلال، النار في جسده، موقدًا لشعلة من الاحتجاجات التي لم يكن لها مثيل في التاريخ العربي المعاصر.

انتهى زمن "السوشال ميديا" الجميل، والمناهض للسلطة بسرعة فائقة، وبدأ زمن جديد، استدركت فيه أجهزة المخابرات والأمن العربية ما فاتها

انقلب الشباب العربي في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن والبحرين ودول عديدة، في خضم خروجهم ضد السلطة، على كل طرائق التفاعل التقليدية في الفضاء العام، ورسخوا لأنماطهم الخاصة من الاستقطاب والحشد والحوار، وبدت وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنها الحل السحري والفضاء البديل للشباب، الذي لن تقيده أي رقابة.

كانت هذه الخلاصة مثلها مثل خلاصات كثيرة في تلك الفترة، وردية أكثر من اللازم، وسرعان ما آلت إلى فشل ذريع مع انكسار الأوتوبيا العربية الجامحة، بإدراك الشباب أنهم يواجهون أدوات قمع  تبلورت عبر عشرات السنين، قادرة على تجديد نفسها في سياقات مختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: الثورات العربية بين التحرر والحرية

كانت سردية "القرية الصغيرة" التي سيؤول إليها العالم في نهاية المطاف، بسبب التواصل السريع والفعال بين الناس من أماكن متنوعة، تخفي داخلها مآزق بنيوية، ورغبات جلية في السيطرة والتحكم والمراقبة. وإذا كان العالم قد تحول فعلًا، بفضل تكنولوجيا التواصل هذه، إلى قرية صغيرة، فإن المستفيدين لم يكونوا بالتأكيد، أولئك الموجودين في هوامشها.

انتهى زمن "السوشال ميديا" الجميل، والمناهض للسلطة بسرعة فائقة، وبدأ زمن جديد، استدركت فيه أجهزة المخابرات والأمن العربية ما فاتها. وربما كانت صورة الشباب الذين يجتمعون افتراضيًا في مجموعات وصفحات، ويقررون التظاهر، فيسقطون أنظمة كاملة، هي اللحظة صفر، التي فهمت أنظمة عربية عقبها، أن هذه التقنيات ليست ألعاب مراهقين. وترافق ذلك مع تأسيس جهات مختصة لمتابعة التفاعل عبر شبكة الإنترنت، وسُنت قوانين مخصصة فقط لملاحقة "التجاوزات" السياسية فيها.

مع وصول الثورات العربية إلى أوج انحسارها، في السنوات الأخيرة، بدأت ظاهرة جديدة من القوانين، تصبح رائجة بشكل لافت، وهي قوانين الجرائم الإلكترونية. وهي لوائح يُفترض أنها مصممة من أجل فرض ضوابط قانونية على استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، ضد عمليات الاحتيال والابتزاز وغيرها. غير أن ناظمًا مشتركًا سيلاحظه القارئ بين هذه القوانين جميعها، في دول عربية عديدة، جعلها ذريعة من أجل قمع الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، وضبط أي أصوات معارضة للسلطة.

وفي حين أصبح الخوف المشترك من ذكريات ما أشعله البوعزيزي، وما تلاه، جزءًا من العقلية التي تدير فيها الأنظمة العربية الدول، فإن سردية "الأمن أولًا"، التي كانت الجزء الأهم في الرواية المضادة للثورات، أصبحت جزءًا فعالًا في أدوات القمع الجديدة هذه.

ليست قوانين الجرائم الإلكترونية حالة خاصة، فهي جزء من سياسات عامة يتم من خلالها تبرير انتهاك حرية التعبير والمشاركة في الفضاء العام، بحجة الحفاظ على الأمن القومي

كما يبدو واضحًا في النماذج العربية المكتوب عنها في الملف أدناه، فإن مفاهيم ضبابية على غرار "الأمن القومي" ومصلحة الأمة أو المجتمع، أو مكافحة الإرهاب، تتصدر المبررات الأساسية لهذه القوانين، والعقوبات الصارمة المترتبة عليها. وهي فكرة رائجة، قائمة على أساس "شرعية الطوارئ" أو الاستثناء، أي الافتراض أن هناك حالة طارئة واستثنائية، على الدولة القيام بتدابير أمنية صارمة لتفاديها. وليس من المصادفة، أن يكون عدد من هذه اللوائح القانونية، قد سُن تحت قوانين الطوارئ أو مع حضور شكلي للبرلمان.

ليست قوانين الجرائم الإلكترونية حالة خاصة، فهي جزء من سياسات عامة يتم من خلالها تبرير انتهاك حرية التعبير والمشاركة في الفضاء العام، بحجة الحفاظ على الأمن القومي، الذي يمكن لتغريدة أو منشور تهديده، حسب هذا المنطق. مع ذلك، فإن هذه القوانين التي ظهرت بشكل منظم خلال السنوات الثلاث الأخيرة في دول عربية عديدة، تُظهر شيئًا من بنية القمع المشتركة في دولة ما بعد الاستقلال في الوطن العربي، وأنماط الإدارة والضبط التي تعتمدها. قد يكون هذا التشابه بين كل هذه الأقطار العربية صادمًا، ومثيرًا لكثير من الإحباط، لكنه يحمل في داخله إشارة، إلى أن الأزمة واحدة، والحل واحد.

 

تُظهر قوانين الجرائم الإلكترونية شيئًا من بنية القمع في دولة ما بعد الاستقلال العربية (بنان شكارنة/ألترا صوت)

تُظهر قوانين الجرائم الإلكترونية شيئًا من بنية القمع في دولة ما بعد الاستقلال العربية (بنان شكارنة/ألترا صوت)

تُظهر قوانين الجرائم الإلكترونية شيئًا من بنية القمع في دولة ما بعد الاستقلال العربية (بنان شكارنة/ألترا صوت)

تُظهر قوانين الجرائم الإلكترونية شيئًا من بنية القمع في دولة ما بعد الاستقلال العربية (بنان شكارنة/ألترا صوت)

تُظهر قوانين الجرائم الإلكترونية شيئًا من بنية القمع في دولة ما بعد الاستقلال العربية (بنان شكارنة/ألترا صوت)

اقرأ/ي أيضًا: 

ملف خاص: المكتبات العامة في العالم العربي.. أعراض فقر التنمية

ملف خاص: الحركة الطلابية والانتكاس الديمقراطي عربيًا