27-ديسمبر-2021

الناقد والأكاديمي وائل فاروق

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


وائل فاروق أكاديمي وناقد من مصر، يعمل أستاذًا للغة العربية وآدابها وثقافتها في كلية العلوم السياسية والاجتماعية في "الجامعة الكاثوليكية" في مدينة ميلانو، وكلية العلوم اللغوية والآداب الأجنبية في الجامعة نفسها. عمل سابقًا أستاذًا للغة العربية في "الجامعة الأمريكية في القاهرة"، وأستاذًا زائرًا في "معهد ستراوس للدراسات المتقدمة في القانون والعدالة" في "جامعة نيويورك".

له العديد من المؤلفات والمقالات باللغات العربية والإيطالية والإنجليزية في مجال النقد الأدبي، والدراسات اللغوية، والدراسات الإسلامية، بالإضافة إلى عشرات الأبحاث المنشورة في مجلات علمية محكمة. من مؤلفاته: "الهويات العربية المتضاربة"، و"اللغة والتقاليد والحداثة"، و"تحليل الخطاب لرسائل إخوان الصفاء".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

أدخلتني أمي عالم الكتب. كانت، ككثيرٍ من القاهريات اللواتي نلن، في النصف الثاني من القرن العشرين، حظًا من التعليم ولم يخرجن لسوق العمل، تتسلى بالقراءة. كانت شغوفة بقراءة الروايات، ومنذ كنت رضيعًا كانت تقرأ روايات نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي بصوتٍ عالٍ وكأنها تحدثني، وكنت – كما تتندر الأسرة دائمًا – أكف عن البكاء وأنصت للقراءة لوقتٍ قد يمتد لساعات.

في طفولتي الأولى كانت الكتب بالنسبة لي صناديق حكايات بصوت أمي. وحتى في سن المراهقة، عندما كنت أقرأ، كانت تتردد داخلي الكلمات بصوت أمي. لم يكن لأي كتاب صوت خاص إلى أن قرأت صلاح عبد الصبور، كان شِعره هو كسرة خبز الفطام. لم تكن المرة الأولى التي أقرأ فيها الشعر، فقد كان جدي لأمي حكّاءً عظيمًا وكان عاشقًا للشعر القديم وحافظًا له، وكان يقص عليّ طرائف الشعراء ونوادر العرب التي يجمعها من كتب التراث، لكن الشعر والحكايات والأساطير والتاريخ الذي كنت مولعًا بقراءته، كل هذا كان ينتمي إلى عالمٍ آخر، عالم سحري ينتمي لزمن وجغرافيا بعيدة عني.

صلاح عبد الصبور كان أول من يتجاوز عتبة وعيي ويقتحم ذاتي. كنت عضوًا في فريق المسرح في السنة النهائية في المرحلة الإعدادية، واختارني مدرس اللغة العربية جمال عبد العظيم لتمثيل دور الحلاج، ورغم قراءتي لعددٍ كبيرٍ من الكتب قبلها، إلا أن "مأساة الحلاج" كانت هي بوابة دخولي الحقيقية لعالم الكتب والكتابة، ولم ينته الفصل الدراسي الأول إلا وكنت قد قرأت معظم أعمال صلاح عبد الصبور، خاصةً المسرحيات الشعرية التي كانت متوفرة كلها في مكتبة المدرسة.

وأذكر أنني طُردت من المدرسة أسبوعًا لأن مدرس الدين أمسكني متلبسًا بقراءة مسرحية "بعد أن يموت الملك" أثناء حصة الدين، حيث كنت أضع المسرحية داخل كتاب الدين وأتظاهر بمتابعة ما يقرأه زملائي. ومما زاد الطين بلة أنه أمسكني عندما كان الشاعر يعلّم الملك ومحظياته أغنيات حسية، نظر المدرس في الكتاب فقرأ: "الملك: كالكأس المقلوبة يتدور صدرك..

المرأة: مولاي.. ائذن والمسه في خلوه.. يتصبب خمرًا حتى تبتل أناملك الحلوة"

عندها أصابته حالة هيستيرية وأخذ يصرخ بصوت عالٍ: "كالكأس المقلوبة يتدور صدرك في حصة الدين يا فاجر".

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

لقد كانت خبرة القراءة متاهة لم أخرج منها حتى الآن. في التسعينيات فتحت عيني فرأيت العالم ينهار، سقط جدار برلين فوقف أنبياء الماركسية عراة يستعدون للتحليق في فضاء الافتراضات بعد أن جفت أنهار جنتهم الأرضية، وتساقطت أوراق أشجارها لتكشف عن القمع والقتل والتعذيب باسم الإنسانية. هبت "عاصفة الصحراء" وملأت رمالها عيون أنبياء القوميين العرب، فصاروا يتخبطون حتى أوشكوا على السقوط في بئر العنصرية المقيتة. أما أنبياء الإسلاميين، فقد غطت وجوهم طبقة سميكة من دماء الأبرياء حتى لم يبقى من ملامحها إلا لون الدم القاني. أنبياء الليبرالية أغرقوا فراشات الحرية في النفط فحالت ألوانها الزاهية إلى السواد. أنبياء الصوفية تركوا الدنيا فضلّوا الطريق إلى الله، وأنبياء المسيحية ابتلعتهم كنائس ارتفعت أسوارها وأخفى رنين أجراسها ما يجب أن تعلنه وتشهد له.

تكاثرت على القلب الأنبياء/ الكتب فتمزق كجسد أوزوريس وتوزعت الأشلاء بين "ماكوندو" في أقصى المكان، وسوفوكليس في أقصى الزمان. وبينهما كان شاعر يعدو في الصحراء، وأنبياء يطرقون أبواب السماء، وأهل خرقة وأهل مسرة واتساع حارة وضيق مجرة، بصير أعمى وأصم يتغنى، جدران لونتها الحياة ليخلد الموت، وأرض سقتها دماء لتزهر الحياة. شتاء كاواباتا وربيع براغ، ثقل إليوت وخفة كونديرا، قلعة كافكا وعقاب دوستوفسكي، فردوس ميلتون وجحيم دانتي، سأم بودلير ونشوة ليوباردي، صخب همنغواي وهدوء بيسوا، حرائق بيكاسو وحقائق هيجل، رسوخ هوسرل وشغب دريدا، تهافت الغزالي وبرهان ابن رشد، عقلانية أرسطو وهيلينية أفلوطين، معرفة الخوارزمي وعرفان ابن سينا، إنه قلب لا إيزيس له.

نعم استطالت ظلالنا فوق أنقاض العالم، غمرتنا شموس غاربة لم يؤرقنا انسحابها، كنا نتعجل الليل ونجومه وأقماره. أتذكر "مهرجان الشعر العربي" الأول في القاهرة، كنت في الثامنة عشرة وعلى منصة الشعر أنبياؤه، ظللت أرفع يدي بإصرار وعندما أعطيت الكلمة كان صوت الشهيق والزفير يشوش على الكلمات، أسعدني ثناء محمود أمين العالم علي، وإهداء كمال ابو ديب كتابه لي، لكن أسعدني أكثر أنني انتزعت دقيقة من منصة الشعر، انتزعت زمنًا لي، ملأته بكلماتي.

عندما دهمت قوات أمن الدولة بيتي واعتقلتني، قام الضابط بتحريز روايات غابرييل غارسيا ماركيز على أنها كتب كارل ماركس. وبعد حفل الاستقبال ووصلة ضرب قال فيها الضابط: "أنا ضميري مرتاح وأنا أعذبكم لأنكم كفار"، صدمتني التهمة.

في تلك الليلة، وأنا معصوب العينين، تحدثت لساعات بدءًا من تلاوة ما أحفظ من القرآن، ثم شرح أسباب النزول والتفاسير المختلفة، مرورًا بالشعر قديمه وحديثه، وما تيسر من الفلسفة والتاريخ حتى قطع استرسالي صوت الضابط: "يا ابن الكلب ده انت تفسد بلد" وصوت الكرسي يتحطم على رأسي.. بعد خروجي، كنت أشعر بمرارة شديدة والتزمت الصمت لوقت طويل ليس بسبب الظلم أو التعذيب، وإنما لأني لم أعرف كيف أشرح خسارتي الفادحة، تلك الدقيقة التي انتزعتها من منصة الشعر.

عندما تسألني عن الكتاب الأكثر تأثيرًا في حياتي لا أعرف، في هذا السياق، هل أختار الكتب التي ألقت بي في هوة العدمية، أم الكتب التي أمسكت بيدي وسحبتني خارجها، أم تلك التي تركتني على الحافة بين هذين الجحيمين! الكتب على كل حال تنتهك كل إمكانية للتصالح مع العالم والقبول به، الكتب هي المصدر الرئيسي للقلق الذي نقتات عليه لنكتب.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

الكاتب المفضل ليس بالضرورة الكاتب الأفضل، ليس هناك أي معيار يمكن أن ينظم التنوع اللانهائي للكتاب والكتابة. الكاتب المفضل بالنسبة لي هو الذي كان حاضرًا في اللحظات المهمة في حياتي، هو الذي عندما أستعيد ذكرياتي أراها ملونة بكلماته، وليس من بين كل من قرأت، وأنا أقرأ بثلاث لغات، من هو أكثر حضورًا من صلاح عبد الصبور. وربما لذلك، بالرغم من أنني كرست حياتي لدراسة الأدب وتدريسه، لم تواتيني الجرأة حتى الآن للكتابة عنه. بالطبع في كل مرحلة من حياتي كان هناك كاتب محبب إلى القلب والعقل ولأسباب مختلفة تتعلق كلها بي، لذلك فالقائمة طويلة جدًا.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

لم يحدث أبدًا أن فعلت هذا في شبابي، أحيانًا كنت أقرأ كتابًا بشغف دون الاهتمام بمعرفة اسم مؤلفه حتى، كنت دائمًا أقرأ ما لا أفهم تمامًا، وكان عليّ دائمًا أن أملأ بخيالي الفجوات الكثيرة التي تملأ النص الذي أقرأه. خبرة القراءة هذه أعانتني كثيرًا على تحمل عبء القراءة بالإنجليزية ثم بالإيطالية، حيث كنت أقرأ دون أن أفهم كل شيء، وكان خيالي دائمًا حاضرًا لإكمال النصوص، وهي متعة أفسدها عليّ العمل الأكاديمي حيث أصبح عليّ أن أفهم بدقة ما أكتب عنه أو أناقشه في أبحاثي، وصرت ألتزم بالتقنيات والتقاليد العلمية لجمع المعلومات، والاقتباس من النصوص.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

طبعًا، فقد أنقذ الكتاب الإلكتروني حياتي. تخيل أننا نعيش في الغرب بعيدًا عن المكتبات ودور النشر العربية، هل كان من الممكن أن نتابع ولو حتى واحد بالمائة من مسيرة الكتابة العربية في تلك الجغرافيا الممتدة للعالم العربي؟ لا أعتقد. أما إذا كان المقصود بالسؤال، هل الكتاب التقليدي يتراجع حضوره في حياتي، فالإجابة بالطبع لا، خبرة القراءة تزداد اتساعًا وعمقًا كلما تعددت وسائطها، ليست تكنولوجيا يلغي فيها الجيل الأحدث ما سبقه، بل على العكس يدعم حضوره ويفتح له آفاق جديدة. ما يحتاج التأمل فعلًا، في رأيي، هو الكتاب المسموع، لأنه تغيير حقيقي في العلاقة مع الكتاب التي ستنتقل من العين إلى الأذن، والتي، لا شك، سيكون لها تأثير كبير على خبرة تحصيل المعرفة من الكتب والوعي المتولد عنها.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

مكتبتي أشلاء موزعة بين القاهرة وميلانو وزغرب، لكن مكتبتي الحقيقية لا مكان لها، هي ابنة الفضول والرغبة والحاجة التي تجعلني أجمع كتبًا بعينها لإشباع تلك الرغبة أو ذلك الفضول. لذا، يمكنني القول إن عندي مكتبات بعدد ما مر بي من تساؤلات تستقر حيث ولد السؤال وتوقف السعي للإجابة. لذلك مكتبتي ليست ثابتة، وأتمنى أن تظل كذلك في حركة دائبة.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أقرأ حاليًا كتابًا بالإيطالية لفيلسوفة إسبانية بعنوان "الشعر والفلسفة"، وهي للأسف لم تُترجَم إلى العربية حتى الآن، وهي من أصحاب البصائر النافذة حول كنه تجربة الشعر ودوره في عالمنا المعاصر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة ربيع عيد

مكتبة علي شمس الدين