20-ديسمبر-2021

الكاتب والصحافي ربيع عيد

ألترا صوت - فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


ربيع عيد صحافي وكاتب من فلسطين، يعمل محررًا في موقع "ضفّة ثالثة". يعمل في مجال الصحافة المكتوبة منذ أكثر من عشر سنوات، وأطلق مؤخرًا من خلال موقع "عرب48" بودكاست "حراك يا شباب". عمل خلال الأعوام الثلاث الأخيرة مديرًا للمشاريع في جمعيّة الثقافة العربيّة في حيفا. درسَ العلوم السياسيّة في جامعة حيفا ودرسَ الماجستير في الإعلام والدراسات الثقافيّة في معهد الدوحة للدراسات العليا، ويدرس حاليًا ماجستير ثانٍ في الصحافة والأفلام الوثائقيّة في جامعة ساسكس في بريطانيا.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

أعتقد أنني كنت محظوظًا بعائلة شجّعت أبناءها على القراءة منذ الصغر، وبوجود مكتبة متواضعة في منزلنا وكون والديَّ كانا أساتذة مدرسة. لذلك تعود علاقتي مع الكتب إلى عالم الطفولة من خلال قصص الأطفال الكثيرة التي توفرت لدي وتناقلت بين أخوتي. أحيانًا كانت لي طقوس خاصة وأنا طفل، حيث كنت أجلس على أرضية الغرفة وأرتّب جميع القصص التي أملكها من حولي لتمتلأ الأرضيّة بها ومن ثم أقرأ. هذا ما أتذكره كبداية. لكن هذه مرحلة من حياة الإنسان قد لا تستمر بعد الطفولة، والكثير من الأطفال تركوا قراءة الكتب بعد أن أصبحوا مراهقين، لعل ذلك بسبب غياب كتب مناسبة لجيل الفتيان آنذاك، أمّا اليوم تتوفر كتب الفتيان بشكل أكبر وأغنى عن السابق، إلّا أنهم يتركون العلاقة مع الكتب لسبب آخر وهو الهواتف الذكيّة وأخواتها. لست من الذين يدقّون ناقوس الخطر بسبب بدء دخول الهواتف الذكيّة بشكل مبكّر إلى حياة الإنسان في جيل أصغر، هو شيء مقلق طبعًا على أكثر من مستوى، لكن يبقى السؤال كيف يمكن استغلال هذا التحول والتطوّر التكنولوجي الحاصل عل مستوى العالم والذي سيرافقنا ويصبح طبيعيًا، إلى أداة شيّقة لاكتساب المعرفة كما قراءة الكتب هي اكتساب للمعرفة وللمتعة أيضًا. هذا سؤال آني باعتقادي لم يبحث كفاية. في العودة إلى تطوّر علاقتي مع عالم الكتب، انتقلت من قراءة قصص الأطفال إلى قراءة الشعر في مرحلة ما بعد الطفولة، وأذكر أنه على مدار سنتان، كانت قراءة الكتب (تحديدًا الشعر!) بالنسبة لي هي تجميع كل دواوين نزار قبّاني وقراءتها. لا أعلم إن كانت هذه الظاهرة ما زالت موجودة حتّى يومنا، لكن نزار قبّاني كان "التريند" بين المراهقين، ربّما لأننا كنّا في فترة انكشاف على عواطفنا ووأجسادنا وبحثنا عن إجابات اعتقدنا أننا قد نجدها في عناوين دواوينه صغيرة الحجم التي خبّأناها بداية وقرأناها سرًا حتى لو تكررت نفس مضامينها بشكل رتيب. أتمنى اليوم لو أنني انكشفت على شعراء آخرين في تلك الفترة لكن هذا حصل معي لاحقًا بعد أن تطوّرت وتنوّعت علاقتي بشكل جدي وأكبر مع الكتب مع مرور الوقت والتجارب. أمّا آخر مستوى من العلاقة مع الكتب ولا أظن أنه سيكون الأخير، فهو تنظيم ثلاثة معارض كتب ضخمة سنويّة في حيفا من خلال عملي في جمعيّة الثقافة العربيّة، وهي تجربة فريدة ورائعة أتمنى لو أستطيع أن أستمرّ فيها وأطوّرها، إلّا أنّي غادرت فلسطين للدراسة في بريطانيا. تجربة تنظيم معارض كتب تجعلك في علاقة مع مئات عناوين الكتب التي ستعدّها في قوائم وتطلبها وتستلمها وتفرزها لاحقًا بحسب ترتيبات لوجستيّة داخل أرض المعرض، وتقوم بالنصح عن أفضلها أو تقديم معلومات للمستفسرين، كذلك تنشأ علاقة مع دور النشر في العالم العربي وكل عالم معارض الكتب بالإضافة إلى علاقة مع الكتّاب من خلال استضافة عدد منهم كل سنة ومحاورتهم. أعتبرها تجربة عمل ممتعة جدًا على الرغم من كثرة متطلباتها ومسؤوليّاتها وضغط العمل الكبير فيها.

  • ما الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

لا يوجد  كتاب واحد بالطبع. في كل مرحلة حياتيّة يوجد تأثير مختلف وهذا متعلّق بالعمر والذائقة والاهتمامات. فلكتب الأطفال التي نسيناها في هذا العمر تأثير هامًا علينا لا يمكن استحضاره الآن. لكن أذكر أن أول رواية كان لها تأثيرًا مباشرة عليّ لدرجة بعد انتهائي منها أصبت بنوع من "الصدمة الثقافيّة" والصفنة الطويلة كانت رواية "امرأة عند نقطة الصفر" لنوال السعداوي. قرأتها صدفة وأنا في الصفّ التاسع بعد أن اقترحتها علي أختي التي تكبرني بعدّة سنوات، والتي حصلت عليها كهدية عيد ميلاد من صديقتها، وأعتقد أن "التريند" الثاني في القراءة بعد نزار قبّاني فازت به نوال السعداوي، لكنه "تريند" محصور بين الفتيات أكثر، لذلك واجهت لفترة قصيرة جدًا شكل من أشكال التنمّر في الصف التاسع بعد أن قدّمت عرضًا لوظيفة منزليّة تناولت فيها حقوق المرأة من خلال أعمال السعدواي الأدبيّة (بعد قراءة عدّة روايات لها لاحقًا)، إذ كان غريبًا أن يتحدث فتى بذلك الجيل عن حقوق النساء بشكل علني لذلك حصلت لمدّة شهر تقريبًا على لقب "نوال السعداوي" كتنمّرٍ أخذته برحابة صدر صراحة ولم يزعجني أبدًا. ومن هنا بدأت اهتمامتي مع القضايا الجندريّة التي تجاوزت أعمال السعداوي.

أمّا في السياسة، خصوصًا فيما يتعلّق بالفلسطينيين في الأراضي المحتلّة عام 1948، كانت لكتب عزمي بشارة "الخطاب السياسي المبتور" و"طروحات عن النهضة المعاقة" التأثير الأبرز علي وعلى انخراطي في العمل السياسي وتشكيل وعيي ورؤيتي السياسيّة. أذكر عندما كنت في المرحلة الثانويّة شاهدت أخي الأكبر يقرأهما في المنزل وجذبني ألوان العلم الفلسطيني التي كانت على غلاف "طروحات عن النهضة المعاقة"، حاولت قراءتهما حينها لكنّي لم أفهم معظم ما قرأت. كانت مصطلحات جديدة كليًا وصعبة ولم أفهم عن ماذا يتحدث عزمي بشارة. لكن عدت لهما بعد بضع سنوات أكثر من مرة وما زلت. واعتقد أنه لا يمكن لأي باحث أو حتى ناشط سياسي جدّي في الداخل تجاوز هذه الأعمال حتّى لو اختلف مع بشارة، لأهمية ما تطرحه من مقولات وتحليل الواقع السياسي الاجتماعي للفلسطينيين في الداخل من منظور سوسيولوجي لحالة التحديث في السياق الاستعماري التي حصلت في غياب المدينة الفلسطينيّة التي خسرنها في النكبة، إضافة لمقولاته في نقد البنية الاجتماعيّة غير المنفصلة عن السياسيّة.

كما اعتقد أنه حصل بين المثقفين الفلسطينيين في الداخل شكل من أشكال "التريند" في قراءة عزمي بشارة خصوصًا بعد عام 2000، وأيضًا بين الشباب المنضمين للحزب الذي أسسه هو وآخرون -التجمع الوطني الديمقراطي- في أواخر التسعينات. أحيانا يكون للتريند في القراءة ايجابيات خصوصًا اذا كنّا محظوظين بتريند جيد وليس رديء كما قد نرى أحيانًا في كتب أخرى.

  • من هو كاتبك المفضّل؟ ولماذا أصبح كذلك؟

لم أطوّر حتى الآن علاقة مع كاتب/ة مفضلّ/ة. لا يوجد لدي كاتب/ة مفضّل/ة، بل أعمال مفضّلة لكتّاب. وبهذا أقول بعضًا منها بترتيب متفرق وسأخصص الأدبيّة منها:

"شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف. "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. "ليون الأفريقي" لأمين معلوف. "متشردًا في باريس ولندن" لجورج أورويل. "العمى" لجوزيه ساراميغو. "تفصيل ثانوي" لعدنيّة شبلي. "طرق الرب" لشادي لويس. "استيقظنا مرّة في الجنّة" لنجوان درويش."جريمة في رام الله" لعبّاد يحيى. "يوميّات الحزن العادي" لمحمود درويش. "كارلا بروني عشيقتي السريّة" لعلاء حليحل. "الشّقة في شارع باسي" لراجي بطحيش. "سأخون وطني" لمحمد الماغوط. "عالم ليس لنا" لغسّان كنفاني. "الكلاب" لممدوح عدوان. "نكات للمسلحين" لمازن معروف. "التّحوّل" لفرانس كافكا. "حقيبة مليئة بالضحك" لنوّاف رضوان. "امتداح الخالة"  لماريو يوسا. "لولا أنّ التفاحة" لعلي مواسي. "القوقعة" لمصطفى خليفة. وقد أكون نسيت أعمالًا أخرى.

أصبحوا كذلك لأن أعمالهم نجحت في إثارة مشاعر ولحظات من التأمّل والتفكير والانبهار والدخول إلى عوالم جديدة. مثلًا في حالة "القوقعة" هذه اللحظات استمرت أيّامًا، أمّا "شرق المتوسط" أو "سأخون وطني" فقرأتهم أكثر من مرّة. أنا متأكد أن هذه القائمة ستكبر مستقبلًا وقد يسقط منها أسماءً لو قرأتها بفترة زمنية مستقبليّة. لربما هذا سبب إضافي لماذا لا يوجد لدي كاتب/ة مفضَل/ة بشكل دائم.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادةً؟

فقط ما هو متعلّق بدراسة أو بحث، لذلك تكون الكتب التي أقرأها ضمن مشروع عمل أو دراسة أو مراجعة للنشرهي صاحبة الملاحظات والملخصات وهي غالبًا كتب فكريّة/ أكاديميّة ذات طابع بحثي. أمّا الكتب الأُدبيّة فأحيانًا أعلّم بقلم الماركير الأصفر بعض الفقرات أو الجمل التي أحببتها واستهوتني.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

ما زلت أفضل قراءة الكتب ورقيًا. أقرأ إلكترونيًا ما هو للدراسة والبحث أو الاطّلاع والفضول أو ما هو غير متوفّر ورقيًا. لكن مع دخول الهواتف الذكيّة وسرقة الوقت منّا بشكل مخطط وممنهج من قبل شركات مواقع التواصل الاجتماعي وصناعة الترفيه، اعتقد أني تراجعت في القراءة الورقيّة وهو أمر يقلقني أحيانًا.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

مكتبتي متشعّبة، لا أعتبرها قائمة في مكان واحد. إضافة لمكتبتي في غرفة عملي في منزلنا في عيلبون حيث تصب كل الكتب التي أجمعها في نهاية المطاف هناك، لي مكتبات عديدة أخرى. بالنسبة لي مفهوم المكتبة الخاصّة ليست تلك الكتب على الرفوف في منزلي فقط، بل الكتب الموجودة في أمكنة أخرى بنيت معها علاقة وتجارب واكتسبت منها معرفة وعرفت فيها أُناسًا وقضيت وقتًا للقراءة والتأمذل وفعل الملاحظة.

 لذلك المكتبة العامّة في قرية عيلبون، ومكتبة جامعة حيفا، ومكتبة جمعيّة الثقافة العربيّة في الناصرة ولاحقًا حيفا، ومخزن كتب معرض الكتاب لجمعيّة الثقافة العربيّة (الأحب على قلبي رغم الرطوبة العالية في المخازن)، ومكتبة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ولاحقًا معهد الدوحة للدراسات العليا، ومكتبة جامعة قطر، ومكتبة جامعة ساسكس، هي كلّها أعتبرها مكتباتي. إضافة إلى ملف أصفر في حاسوبي بعنوان "كتب" يحوى على عدّة كتب إلكترونيّة.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

استأنفت اليوم قراءة كتاب "THEY CAN’T KILL US ALL" (2017) وهو كتاب يحكي قصة حركة "حياة السود مهمّة" Black Lives Matter للصحافي الأمريكي Wesley Lowery الذي غطّى الاحتجاجت الشعبيّة في الولايات المتحدة في أعقاب قتل الشرطة الأمريكيّة للشاب مايكل براون عام 2014 فيما عُرف لاحقًا باضّرابات فيرجسون. استأنفت القراءة فيه لأنني وجدت اليوم في صندوق البريد رسالة تحذير أولى من مكتبة مدينة برايتون العامّة، بأن وقت الاستعارة لهذا الكتاب نفذ وعلي إعادته. استعرت الكتاب خلال أيامي الأولى في مدينة برايتون بعد تجوال تعارفي مع المدينة. ذهبت لاشترك في نادي للسباحة فكانت المكتبة العامّة بجانب المسبح. دخلتها وكان هناك معرضًا خاصًا للكتب ضمن فعاليات "شهر التاريخ الأسود" Black History Month الذي يقام سنويًا في بريطانيا خلال شهر أكتوبر للتعريف بثقافة ذوي البشرة السمراء وكجزء من محاربة العنصريّة والأفكار المسبقة ونزع الاستعمار. فتحول ذهابي للاشتراك في المسبح إلى اشتراك إضافي في مكتبة برايتون العامّة، إذ كان مثيرًا بالنسبة لي قراءة كتاب ضمن نظام الاستعارة الذي مارسته آخر مرّة قبل ذلك في قريتي عيلبون عندما كنت طالبًا في المدرسة. فخلال إقامتي في حيفا لم تتوفّر مكتبة عربيّة عامّة وكنت أعتمد على مكتبة جامعة حيفا خلال دراستي ولاحقًا مكتبة جمعيّة الثقافة العربيّة خلال عملي فيها.

 يبدو أن نظام استعارة الكتب تقلّص بشكل كبير مع دخول الكتب الإلكترونيّة وإمكانية الاقتناء المباشرة، لكن يبقى فيه خاصيّة تحفيزيّة للقراءة كونك ستعيد الكتاب مجبرًا خلال فترة زمنيّة، وإلا ستدفع غرامة كما حصل معي اليوم. في حقيقة الامر أنّي نسيت أمر هذا الكتاب لأنني انشغلت بقراءة كتب أخرى خلال الشهرين الماضيين وكلها كتب متعلّقة بالصحافة وصناعة الأفلام الوثائقيّة وباللغة الإنكليزيّة _وهو أمر جديد وجيد_ ضمن دراستي للماجستير. لذلك سأسترق قدر ما استطعت قراءةً من الكتاب قبل الإنذار الثاني لأن الكتاب يهمنّي على أكثر من مستوى: فهو من تأليف صحافي وثّق احتجاجات حركة "حياة السود المهمّة" بشكل يومي وأنا مهتم بعملي الصحافي بالحركات الاحتجاجيّة بشكل كبير، وهي فرصة للنظر إلى تجربة صحافية ذاتيّة وتجربة إصدار كتاب توثيقي لأحداث سياسيّة لعل تكون علاقتي القادمة مع الكتب شيء من هذا القبيل.

أمّا الكتاب القادم الذي أخطط له بعد الانتهاء من مهمّات فصلي الدراسي الأول، فهو "أشخاص عاديون" للكاتبة الإيرلنديّة سالي روني، التي أعلنت مؤخرًا تأييدها لمقاطعة إسرائيل. ليس قرارها الدافع الرئيسي لقراءتها أو كون كتبها من الاكثر مبيعًا في بريطانيا، بقدر ما تكتبه في رواياتها عن العلاقات بين الجيل الطلابي/ الشبابي الألفيّ في الحقبة الراهنة بمتغيّراتها السياسيّة والاجتماعيّة في بيئة انتقلتُ للعيش فيها قبل أكثر من شهرين، يهمّني التّعرف عليها عن قرب كوني أعيش في سكن طلابي مع هذه الشريحة الصاخبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة علي شمس الدين

مكتبة كاملة محمد