01-مارس-2021

الشاعر والروائي لطفي الشّابي

ألترا صوت - فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


لطفي الشّابي شاعر وروائي من تونس. عضو اتّحاد الكتّاب التّونسيّين. صدر له في الرّواية: "ما لم يقله الشّاعر" (2009) و"المائت" (2013)  و"هواوي" (2018) و"لن نعبر الجسر معًا" (2019). وفي الشّعر: "واقفون هنا والمدى واقف" (2011) و"نصف قمر على ليل الحديقة" (2016).


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

ما أهوَن هذا السّؤال حين نتلقّاه للوهلة الأولى، وما أشدّه حين نحاول أن نضبط هذه الـ"ما" ولا نجد لها معادلا واضحا يمكن أن يسمّيها. هذا السّؤال يحتاج إلى كدّ الذّاكرة والوقوف طويلا على أعتاب حياة بعيدة غائمة، وإدمان الطّرقِ على أبواب موصدة مُهملة لعلّها تلينُ وتتيح الرّحلة عكسيّا إلى زمن بعيد فنعرف بعض ما يحاول هذا السّؤال أن يعرّيه ويرفع عنه غشاوة السّنين وغبارها المتراكم على جدار ذاكرة بدأت تفقد بعض ما كان لها مَضاء.

كيف يمكن اختزال رحلة طويلة مع الكتاب لم تكفّ حتّى اليوم عن مدّ جذورها وتغذية جذوعها وفروعها حتّى أضحتْ بيتا وارفا يمنحني شعورا راسخا بأنّي حيّ وبأنّ الحياة في الكُتب هي أقصى ما يمكن أن يحصّله المرءُ في عبوره العابر هذا؟ كيف يمكن أن أختصر كلّ تلك الطّريق التي بدأتْ عشقا للحكاية المسموعة وانتهتْ إلى محاولة تركيب الحكايات وتسريد الحياة بكلّ ما فيها من لبس ومن وجع ومن مباهج أيضا؟

في ذاكرتي مشاهدُ غائمة كثيرة، ظلالُ ملامح وأصداء أصوات وكلمات وأشباح أشخاص وإشراقات عيون وحركاتُ شفاه وأيادٍ.. كلّها معابر كانتْ دليلي إلى نشوة القراءة ومتعة السّفر في ثنايا كتاب.

تلك الرّحلة (لا أعرف متى بدأت على وجْه التّحديد، ولا أرى لها نهاية إلاّ حين يكفّ هذا القلبُ عن ضخّ الطّاقة في هذه الآلة المنذورة للتّآكل) لها مداخل عديدة أهمّها جدّتي.

نشوة الحكْيِ وسِحر "الخرّافة" التي كانت جدّتي لأمّي تواظب على إمتاعنا بها كلّ ليلة خميس. كانت "أُمَّا الزّينة" تزورنا كلّ يوم أربعاء وتبيتُ عندنا من أجل الاستماع إلى الرّواية التي تبثّ على الإذاعة ليلا. ثمّ حين ينتهي البثّ تقترح عليها أمّي أن تحكي لنا حكاية. ولم تكن جدّتي تتمنّع، رغم أنّها تستهلّ كلامها دائما بالتحسّر على زمن الخرّافات وعلى ذاكرتها التي مسّها التّعبُ. كانت تصمتُ لحظات ترسل خلالها بصرها في الفراغ المديد أمامها، تشدّ المحارم الملوّنة التي تشدّ بها رأسَها، تداعبُ مسبحتها ثمّ تتأمّل وجوهنا المعلّقة على شفتيْها. تنقّل بصرها بين وجوهنا، ثمّ تمسح فمَها بكفّها وتنطلقُ بعبارتها المألوفة: "كان يا ما كان.. في قديم الزّمان.. يحكيوا على..".

نشوة الحكاية تلك لم تكن تكفّ عن التحرّك في رأسي الصّغيرة لأوقات تطول.. أغيب في أطوارها على امتداد الحكْي. وأظلّ أستعيد أطوار الحكاية وأحاول أن أعدّل من بعض تفاصيلها. يتواصل ذلك الرّكون العجيبُ إلى مدار التخيّل حتّى يلفّني النّوم بجناحه فتنفتح لي في ثنايا تلك الغيبة وقائع الحكاية متشظّية كوابيس تارة وأحلاما مُبهجة تارة أخرى. إنّها نشوة لمْ تكفّ حتّى الآن عن التمشّي في خيالي وتحريك ينابيع من لذّة ناعمة لا أعرف أهي في العقل تحيا أم في الرّوح تنمو وتُضيء.

كانتْ جدّتي حكّاءة بارعة. كان الحكْي الشّعبيّ ديوانها المحفوظ في ذاكرتها المُدهشة. إرثٌ قديم يجري على لسانها في لغة آسرة. أسماء أبطال ومسارات أحداث ومفاجآت تعقّد وقائع وتقاطع مصائر وبلاغة مخاطبات ومحاورات. كلّ ذلك كانت جدّتي تؤدّيه على نحو يشدّنا إليه كالمخطوفين. حكيٌ قد يبدو ساذجا أو بسيطا، ولكنّه ينطوي على ما ينطوي عليه كلّ أدب عظيم. ورغمَ أنّها لمْ تكن تجيد القراءة والكتابة، فقد كانت تمتاز بذكاء فطريّ، وبقدرة على تنسيق العبارات ومحاكاة الوقائع على نحو دقيق ملهم. وكانت تحبّ الكتاب. يُثيرها شكلُه وصُورُه وخطوطه التي لم تكن تعي ما الذي تعنيه، وكان بها ميل كبير إلى أن تسمع منّي ما الذي تقوله تلك الخطوط. في كتابي المدرسيّ أو في الكتب الصّغيرة المصوّرة التي كنتُ أستعيرها من المكتبة العموميّة وقد كانت مفخرتي آنذاك. كنتُ أقايض بها حكايات جدّتي. أقرأ عليها من كتابي حكاية في المساء على أن تحكي لي حكاية صغيرة قبل أوان حكاية اللّيل.

في الثّامنة من عمري، حصلتُ على أوّل جائزة. كانت كتابين صغيرين. عدتُ بها إلى البيت دون أن أفضّ غلافها. تولّت أمّي ذلك وفي عينيها بريق لم أعرفه فيهما من قبل. حين زارتنا جدّتي في موعدها المعتاد، أشرقتْ عيناها لسماع النّبأ.. قبّلتني وفكّتْ عقدة في طرف خلاّلتها وناولتني قطعة نقديّة من فئة الخمسين ملّيما. كان ذلك مبلغا كبيرا وقتها. كان يفوق ثمن الكتابين معا. حينها أدركتُ أنّ الكتابَ يمكن أن يجعل للإنسان مكانة ويمنحه ما يجعله محبوبا في أعين الأهلِ والأقربين. كانت تلك الحادثة أوّل إدراك لما يمكن أن يهبُه الكتاب لمن يحبّ الكتاب.  

وأبي أيضا كان أحدَ من هيّأ لي العبورَ إلى عالم الكتاب. كان رجلا صموتا ومُهابا وكنتُ أتهيّبُ الحديث إليه رغم أنّه لم يكن من الآباء القُساةِ. لمْ يدخل مدرسةً في حياته أبدا، ولكنّه كان ذكيّا شغوفا باللّغة العربيّة يستعملها كثيرا في حديثه وكانتْ تُطاوعه فلا يبدو عليه أيّ تلعثم أو تعثّر. لي معه ثلاثة مواقف متباعدة لا تُنسى: كنتُ في الثّامنة من عمري حين عاد ذات يوم عند الغروب إلى البيت من سفر إلى العاصمة. بعد العشاء دعاني وشقيقي الذي يكبرني بسنتين إليه. فتح جريدة كبيرة كانت بين يديه، وقال: من يقرأ هذه الفقرة على نحو أوضح تكون له هذه القطعة النّقديّة، ورفع في وجهيْنا القطعة الصّغيرة الصّفراء. قرأ أخي أوّلا. وتعثّر في الخطّ الصّغير وتاه في الحروف العارية من الحركات. ثمّ قرأتُ أنا بعدَه. انفرجتْ أسارير أبي بعد أن أنهيتُ وناولني القطعة الصّغيرة. كانتْ سعادتي بنيل إعجاب والدي أكبر من المبلغ الذي غنمتُه. ورأيتُ على وجْه والدتي فرحا أبهج روحي.

في مرّة أخرى، بعد عاميْن أو أقلّ قليلا، كنتُ أستعدّ للذّهاب صباح يوم الأحد إلى المكتبة العموميّة من أجل إعداد بحث كُلّفنا به جماعيّا. دخلتْ أمّي لطلب الإذن من والدي. وعادتْ وهي تبتسم وناولتني قطعة نقديّة معادلة لتلك التي منحتني إيّاها جدّتي. لم يتعوّد أبي أن يعطينا أموالا أبدا. وهذه الحركة أنبأتني بأنّه يكافئني أنا بالذّات على اهتمامي بالكتاب وبالقراءة.

كنتُ أحبّ أن أراجع دروسي تحتَ النّوْل على إيقاع حركاته المنتظمة. وكان يقطع أحيانا عمله ويتوجّه إليّ بأسئلة عن محتوى ما أقرأ. استغلّ مرّة جلوسي على مقربة منه، وغادر نوْلَه ثمّ جلس على مقربة منّي وطلب منّي أن ألخّص له حكاية سيحكيها لي، وأن أستنتج منها العبْرةَ. استمعتُ إلى حكايته باهتمام، وحرصتُ على تلخيصها على نحو واضح. ثمّ انفتح الجدلُ بيننا. كان يحدّثني حديثَ صديقيْن متكافئين. أحسستُ بأنّ الكتاب الذي كنتُ أمسكه بين يديّ هو من هيّأ لي أن أكون صديقا لمن هم أكبر منّي سنّا وأكثر خبرة في الحياة.

لم أبلغ العاشرة من عمري حتّى أضحى الكتاب عالمي الذي أحبّ أن أسكنَه. وهبتني صحبة الكتب حياةً أخرى مختلفة. في الصّمتِ كنتُ أخلو إليها وأنسى صخبَ الأطفال من حولي. في ركنٍ من الغرفة الواسعة أو في ناحية من نواحي الفناء الكبير قرب البئرِ أو على مقربة من الزّريبة، أو في الحقول المترامية على امتداد البصر حول بيتنا الواقع في أطراف المدينة، حين نخرج أنا وأخي الأكبر للمرعى، لم أكن أشغل نفسي إلاّ بمتابعة أطوار حكاية أو تخيّل عوالم قصّة أو حياة شخصيّة عاشت في قديم الزّمان ولكنّها تُبعث في الكلمات حيّة نابضة بالحياة فأحبّ تقمّصها وأرحل إلى زمانها ومكانها وأعيش ما عاشتْه وكأنّه يقع الآن.

في سنتي الثّانية بالمدرسة، انتقلت جدّتي لأبي وأعمامي الشّباب للسّكن معنا. كان عمّي بلقاسم طالبا في العاصمة. وكنتُ أنتظر عودته منها إلى دارنا لأنّه كان يجلبُ معه مجموعة من الكتب والمجلاّت الفرنسيّة يُديم النّظر فيها. أحببتُ تلك الكتب المصوّرة. وتهجّيتُ أوّل جملي باللغة الفرنسيّة منها، وقد كان يترك بعضها في صندوق خشبيّ كبير كان في عيني صندوقا عجيبا أتردّد عليه كلّما وجدتُ من وقتي فجوة. "زومبلا" رافقني حتّى مرحلة الثّانوي، ولم أنقطع عنه إلاّ حين انفتحت لي مباهج قراءة الأدب العالميّ بتوجيه من أستاذ الفرنسيّة الذي لا أنسى أثره فيّ حتّى اليوم.

في المدرسة رسّخ فيّ بعض المعلّمين محبّة الكتاب. أن تُقرأ إنشاؤكَ على مسمع التلاميذ في حصّة الإصلاح وأن تُمتدح عبارة من عباراتك أو صورة من صُورك. أن تعلّق أعمالُك في ركن الأعمال المتميّزة وتبقى كذلك مدّة أسابيع وقد أحيطت بإطار مزركش. أن تُستدعى لتقرأ فقرة من عملك في القسم المجاور. كلّ ذلك يجعلك تقبل على تطوير أسلوبك ومعارفك بإدمان القراءة ومعاشرة الكتب.

في المعهد وجدتُ أساتذة متحمّسين للكتاب. فتحوا لي مسالك أرحب في الفكر وفي الأدب. ودلّوني على ينابيع لم أكن أعرفُها في الأدب العالميّ. في نادي الأدب كنتُ أحيا. وكانت الحصص الأسبوعيّة متعة حقيقيّة أنتظرها بشغف وأستعدّ لها على امتداد أيّام الأسبوع بحرص يفوق بكثير حرصي على حضور الدّروس وحفظها.

الآن، أدرك أنّي مدينٌ لكلّ هؤلاء بما أنا عليه اليوم. بما حقّقتُه لنفسي من رسوخ في المعنى، ومن "شقاء في النّعيم" الذي لا يُدركُ معناه إلاّ من تذوّقه فأدمنه. لذلك أيضا أراهن في التّربية والتّعليم على الكتاب. المطالعة هي الطّريق الأقصر والأكثر رسوخا وثباتا من أجل تنشئة سليمة ومناعة تدوم. ربّينا، أنا وزوجتي، وَلديْنا على محبّة الكتاب دون أن نفرضه عليهما. أغرقناهما في الكتب والمجلاّت وجعلناهما يقلّداننا ويقتديان بنا ونحن نواظب على معاشرة الكتابة حتّى صار عندهما أمرا حيويّا كالطّعام والشّراب وسائر المُتع الأخرى. وجعلتُ من دروسي في المعهد منذ ثلاثين عاما محاولة لترسيخ هذه العادة والإغراء بها. لأنّه قد صحّ عندي أنّه الطّريقة الوحيدة التّي نهتدي عبْرها إلى خير ما فينا وخير ما في الآخر.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

لستُ أميل إلى المفاضلة بين الكُتب. في كلّ مرحلة من مراحل حياتي التّي عرفتُ فيها آلاف الكتب، كنت أشغف بكتاب وأعتقد حينها أنّه أفضل الكتبِ على الإطلاق. ثمّ بعد فترة تقصر أو تطول أنسى ذلك الكتاب وأتعلّق بآخر مردّدا: هذا أفضل كتاب على الإطلاق. وهكذا، أدركت أنّ لكلّ مرحلة كِتابُها (أو كُتُبها)، والحقيقة أنّ زاوية التلقّي المحكومة بالفترة العمريّة وبالذّائقة هي من يحدّد ذلك ويقرّه وكأنّه حقيقة مطلقة.

بعد هذه الرّحلة الطّويلة، يستقرّ في خاطري نفس الشّعور وأجدني أعيش نفس الموقف مع كلّ كتاب جديد مُبهر أكتشفُه. أقول حين أستمتع بكتاب محكم البناء أو مُتقن التّصوير إنّه أجمل كتاب قرأتُه في حياتي. والحقيقة أنّي ممّن ينبهرون عند القراءة ويحكمون على الكتاب من جهة المجهود المبذول في كتابته والمكابدة التي عاشها الكاتب في خلق عوالمه ونحتِ كينونته المُدهشة. أقرأ اليوم من هذه الزّاوية العالمة، وأعرف المعاناة التي تختفي وراء كتاب ما، والنّزيف الذي يرافقها والثّمنَ الذي يدفعه الكاتب من روحه ومن أعصابه ومن حياته من أجل أن يلامس روح قارئ ويحرّك فيه ما كان كامنا في أعماقه من ممكنات حياة أخرى.

في حياتي كُتبُ كثيرة ظلّت راسخة في روحي وهي تشكّل معا ينابيع أو دوائر ضوء لم يخفتْ شعاعها يوما: "الشّاعر" للطفي المنفلوطي كان أوّل كتاب شدّني وأنا طفل وقرأتُه مرّات كثيرة. "المستنقع" و"بقايا صُوَر" لحنّا مينه، قرأتهما في خمسة أيّام معا، وقدّمتهما في نادي الأدب بالمعهد وأنا في السّنة الثالثة (التّاسعة إعدادي بمسمّى اليوم). "الأمّ الصّينيّة" لبيرل باك، و"فئران ورجال" لجون شتاينبك، قرأتُهما بشغف كبير وأنا في الخامسة ثانوي. و"رسالة الغفران" للمعرّي وقد قرأتُها قبل سنة من البكالوريا ولم أكفّ عن العودة إليها بحكم تدريسي لها حتّى كدْتُ أحفظها كلّها، وأعتبرها كتابا ضروريّا لمقاومة كلّ أشكال التعصّب والعمَى التي تتواسع في أهل هذا الزّمان. و"الرّجل الأوّل" لألبير كامو الذي كان في محفظتِه حين انطبقت عليه كتلة الحديد في سيّارة ناشرِه وكان يستعدّ لإنهائه. منذً أسابيع قليلة فرغتُ من قراءة كتاب مُدهش: "اسمي أحمر" للتّركيّ باموق. وقد أبهرني الكتاب حتّى قلتُ إنّه أفضل كتاب قرأتُه حتّى اليوم. ولكن بعدَه بأسبوع واحد قرأتُ كتاب "ظلّ الرّيح" للإسباني زافون فقلتُ أيضا: هذا الأفضل على الإطلاق.

القراءة عندي كالكتابة: حالة خلقٍ. ولا خلْقَ حقيقيّ دون أن تطلقَ كلّ ما في روحك من طاقات. الكتابُ الذي تكتُبه بكلّ ما تملك من صدق وأنت تراقب حالاتك العميقة وتحاور أعماقك هو الذي يمسّ القارئ. والكتاب الذي يُريك أعماقكَ ويحرّك فيك ما حرّك في روح كاتبه هو الكتاب الذي يبقى في ذاكرتك وينطبع في روحك. وكأنّك أنت من كتبَه.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

لستُ أيضا ممّن يميل إلى هذا التّصنيف على أساس المفاضلة والتّفضيل. في الكتابة لا معنى لهذا التّرتيب الذي يتنافى مع روح الكتابة المبنيّة على أساس التنوّع والاختلاف التي تُخاطب الذّائقات المتباينة بدوْرها. الكاتب الأقرب إلى روحي ليس هو بالضّرورة الأقرب إلى روح غيري. والكاتب الذي يعجبُني في كتاب معيّن لا يستطيع أن يُنسيني كاتبا آخر أعجبني وشدّني في كتاب آخر أو أكثر. لحسم هذا المادّة علينا أن نفاضل بين الكتاب على أساس العلاقة التي يُقيمونها مع القرّاء. الجسور التّي يبنونها بينهم وبين القارئ. الأحلام التّي يبعثونها عبر مؤلّفاتهم والطّرق التّي يفترعونها من أجلهم إلى أنفسهم وحيواتهم التي تنتظرهم.

وفي حياة كلّ واحد فينا كاتب قام بمفرده أو تشارك مع عدد غير محدود من الكتّاب في القيام بهذا الدّور. شخصيّا أعتقد أنّي مدينٌ في كلّ مرحلة من مراحل حياتي لكاتب أو أكثر دلّتني كتاباته على الطّريق الأقصر إلى حياتي. المنفلوطي في مطلع سنيّ مراهقتي أهداني جناح روحٍ محرّر من ربقة الجسد الفوّار. حنّا مينه بعدَه علّمني كيفَ تكون حياتك جهادا من أجل "الإنسانيّة جمعاء" ومقاومة لكلّ أشكال الظّلم والاستبداد مع الوثوق بالطّريق والصّبر على حمل "الصّليب". ألبير كامو قادني إلى مُغالبة المنزلة البشريّة المحكومة بالقيود بالفعل والمحاولة، محمود المسعدي علّمني معنى الوفاء لجوْهر الإنسان الفرْد ومعدنه الحرّ كما علّمني "كُرْهَ البيوت" وعدم الإيمان بالآخر ونشوة التّخلّي والتّرْك. والمتنبّي وتلميذه المعرّي علّماني معا أنّ الشّرّ كامن في الإنسان كما تكمن النّار في الحجر. فإذا أردنا أن ننجو من تلك النّار فما علينا إلاّ أن نتحاشى الاحتكاك بهم ما استطعنا.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

كنتُ في المرحلة الثّانوية أواظب على ذلك. ما زلتُ أحتفظ حتّى اليوم بكرّاسات المطالعة أدوّن فيها عناوين الكتب التي أقرأها حينذاك وأسجّل بعض الاقتباسات منها.

حين أصبحتُ أستاذا، صرتُ ألخّص الكتب التي أقترحها على تلامذتي لحصص المطالعة، وأبعث عن المقالات النقديّة من أجل أن أعدّ جذاة الدّرس وأوجّه تلامذتي إلى الطّريقة التي يجب أن نتّبعها ونحن نقرأ كتابا. ولكنّ التّجربة والخبرة التي كسبتُها من معاودة الدّرس ومخالطة أرواح متعطّشة لعوالم مجهولة مُغرية جعلتني أعرف كيفَ أوجّههم عبر النّقاش المباشر المنظّم ارتجالا، إلى المَواطن التّي ينبغي أن نقع عليها حتّى نقعَ على ينابيع مُتعة القراءة.

منذ عقود، وأنا أقرأ بشكل منتظم، وأكتفي بمتعة السّفر في ثنايا كتاب، نادرا ما أخطّ على حواشي الكتاب ملاحظة أو علامة لتقييد فكرة أو تثبيت عبارة من أجل العودة إليها لاحقا. أحيانا تختلط عليّ الكتب التي أقرأ ولا أهتدي بسهولة إلى الرّبط بين عنوان الكتاب ومؤلّفه. صرتُ أرضى من المطالعة بنشوة القراءة. بالبحث عن التّقنية المعتمدة في السّرد وفي بناء عالم الرّواية.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

تغيّرتْ. نعم. لقد رسّختْ علاقتي بالكتب. صار الكتاب أقرب إليّ. قرأتُ الكثير من الكتب الجديدة على المحامل الالكترونيّة. كان يمكن أن أنتظر وقتا أطول من أجل الوصول إليها في نسختها الورقيّة. استرجعتُ كتبا قديمة فقدتْ من المكتبات ولم يعد يذكرها أحدٌ. الكتاب الإلكترونيّ يجعل القراءة أيسر أحيانا. يُتيح لك أن تدوّن ما شئت من ملاحظاتك وأن تعيّن ما تحتاج إليه من اقتباسات وأن تعود إليها على نحو أسرع وأكثر تنظيما دون بذل الكثير من الجهد.

المحامل الجديدة جعلت الكتاب في متناول الجميع. ساهمت في التّعريف بالكتّاب من مختلف أنحاء العالم وفي وقت قصير. للمحامل الجديدة فضائل كثيرة تكذّب كلّ من يدّعي، غرورا وادّعاء، الانتصار للكتاب الورقيّ والخوف من زواله بسبب هذا المدّ التّكنولوجيّ الجديد. الإنسان كائن يخشى كلّ تطوّر.. لديه بحكم الطّبع المركّب فيه ذلك الصّمود في وجه كلّ جديد طارئ. ولكنّه سرعان ما يُسلّم حين يختبر ممكنات الجديد وفضائله. لا شيء يمكن أن يُلغي متعة القراءة من الكتاب. تلك المتعة التّي يُتيحها تصفّح الأوراق وشمّ رائحه الحبر والرّطوبة.. إنّه نوع من العطر الذي تنتعش له الرّوح.. ذلك ما ركّبتْه العادة في أعماقنا فصار حاجة حيويّة لا غنى عنها.

في الحظر الصحّي الأوّل، وجدْت نفسي محاصرا بلا كُتب. ولولا الكتب المُتاحة في المكتبات الافتراضيّة لما تمكّنتُ من استغلال ذلك الوقت الطّويل من أجل قراءة أكبر قدر ممكن منها. نزّلتُ عددا كبيرا من الكتب الضّخمة، وقرأت بعضها من المصدر، وطبعتُ أغلبها على الورق. الكتاب يبقى كتابا مهما اختلف شكله أو محمله. وأعتقد أنّ العلاقة لا يمكن أن تتغيّر بتغيّر الشّكل. بل لعلّها تزداد رسوخا وإغراءً.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

لديّ مكتبات كثيرة، فأيّها تريد أن أحدّثكم عنها؟

مكتبتي الخاصّة، أم مكتباتي الكثيرات التّي أتردّد عليها من حين لآخر وأجد متعة كبيرة في زيارتها. انتقلتُ بالسّكنى مرّات كثيرة. وفي كلّ مرّة أكتشف أنّ أكثر مع يرهقنا عند التنقّل هو الكتب. في كلّ مرّة تزداد المكتبةُ اتّساعا. وفي كلّ مرّة أحاول أن أقلّص من عدد الكتب التي لم يعد يتّسع إليها الفضاء المخصّص لها بالتبرّع ببعضها إلى من يستحقّها: مكتبة المعهد الذي أعمل به منذ عقود، المكتبات التي نُقيمها في بعض المدارس الابتدائيّة الرّيفيّة، بعض أبناء الأصدقاء الذين يحتاجون إلى المجلاّت والكتب التي نشأ عليها ولداي...

في مكتبتي كُتبٌ نادرة تعود إلى عقود خلتْ.. قرأتُها في فترة شبابي ومنها كتبُ زوجتي التي قرأتها في فترة شبابها. فيها كتبٌ اقتنيتها من بائعي الكتب القديمة، وهي عادة نُسخ من الطّبعة الأولى لكُتب رائعة صارت اليوم نادرة. فيها أيضا كتبٌ أهديتْ لي وعليها توقيعات أصحابها. مع كلّ كتاب منها ذكرى، وكلّ كتاب يحملني حين أتصفّحه إلى زمن بعيد مضى وهو من يتولّى تذكيري بالوجوه والوقائع.

أمّا مكتبتيّ الأخرييْن فهما المكتبة الجهويّة بنابل والمكتبة العموميّة بالمعمورة حيث أقيم. مكتبة نابل دخلتها أوّل مرّة حين انتدبْتُ للعمل في نابل سنة 1991، وكان مديرها الشّاعر الرّاحل محجوب العيّاري. سكنتُ في العمارة المتاخمة لها، وكانتْ بيتي الثّاني. لم أنقطع حتّى اليوم عن التردّد عليها بانتظام، أستعير في كلّ مرّة ثلاثة كتب أنتقيها حسب الحاجة: كتب قديمة أعيد قراءتها، أو كتب حديثة النّشر. والمكتبة تزوّد باستمرار بالجديد من الإصدارات وطنيّا وعربيّا وعالميّا. أحيانا يتهيّأ لي أنّي أمتلك أيضا تلك المكتبة. وأنّ كلّ من يتردّد عليها تربطني بهم علاقة متينة. حين أشرع في قراءة كتاب أتخيّل الأيادي التي أمسكتْ به والأنامل التي ورّقتْه والأرواح التي أضاءتْها كلماته. وأعتبرهم جميعا أشقّائي وأصدقائي.

أزور مكتبة المعمورة في نفس اليوم الذي أزور فيه مكتبة نابل. أستبدل الكتب الثلاثة أيضا وأحرص على إشباع هذا النّهم الذي لا ينتهي. أصاب بشيء من الأسى البارد وأنا أرى المكتبات تخلو من روّادها عاما بعد عام. الكتبُ كثيرةٌ والقرّاء من الجيل الجديد خاصّة في تناقص مستمرّ. وهذا مخيف.

مكتبتي الأكبر، هي تلك التي تحوي ما لا يُحصى من الكتب وما لا يحدّ من اللّغات. كلّ المكتبات الكبرى في العالم بين يديّ. متاحة على المحامل الجديدة. ما من كتاب يمكن أن تعدم سبلَ الوصول إليه.  أليس هذا مُدهشا؟

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أقرأ رواية "التشهّي" لعالية ممدوح. لم أقرأ لهذه الرّوائيّة قبل اليوم. وأكتشف نصّا مُحكم البناء طريفا. وأقرأ بالتّوازي معه كتاب "ألبير كامو وماريا كاتزاراس: تراسل (1944 /1959)" كتابٌ ممتع ظللتُ أبحث عنه سنوات حتّى وقعتُ عليه منذ أشهر قليلة. وهو لا يُفارق طاولة النّوم، أراوح بينه وبين الرّوايات التي أقرأ وأجد فيها تقاطعات عجيبا: الكتابة وما لا تطاله عين القارئ. النصّ وما يُفضي إليه ما جاور النصَّ منذ تخلّقه في ذهن كاتبه وروحه.

رافق هذا لكتاب الضّخم منذ شرعتُ في قراءته كتبا أحببتُها رغم اختلاف اتّجاهاتها السّرديّة وأجناسها: "ظلّ الرّيح" لزافون، "ظلال النّخيل" للشّابي، "البيريتا يكسب دائما" لكمال الرّياحي، و"التشهّي" لعالية ممدوح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة عبّاس سليمان

مكتبة عبد المقصود عبد الكريم