11-يناير-2021

الناقد عبد المالك أشهبون

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


عبد المالك أشهبون ناقد وأكاديمي من المغرب. ولد عام 1960. حاز على جائزة كتارا للرواية العربية في حقل النقد الروائي عام 2020. من أعماله: "آليات التجديد في الرواية العربية الجديدة"، و"الرواية العربية من التأسيس إلى النص المفتوح"، و"الحساسية الجديدة في الرواية العربية.. روايات إدوار الخراط نموذجًا"،  و"العنوان في الرواية العربية"، و"تطريز الحكاية في المقامات".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

لكوني أنحدر من أصول جبلية أمازيغية، كنت ـــ منذ صباي ــــ على علاقة وطيدة بالطبيعة، بمختلف ألوانها ومظاهرها ومناظرها، فكانت طفولة غنية بالمناظر الطبيعية التي أحاطتني منذ الولادة التي تمت على قمة جبل من جبال الأطلس المتوسط؛ فمن نافذة بيتنا الأول ومسقط الرأس، ما زالت الإبصارات الأولى تحيل على جماليات الطبيعة، تشكل بالنسبة لي مصدر غنى وذخيرة حية من ذخيرة الإبصارات الأولى في الجبل، حيث لم أكن أرى المنظر الواحد مرتين، إذ تتغير المناظر بتغير الفصول والأحوال الجوية، فكان ينبغي أن أكون شاعرًا من شعراء الطبيعة حتى أستوعب في جمل جماليات هذا المكان، وأنا أستعيد شريط الذكريات في الجبل بكل ألوانه، وتضاريسه، ومكوناته، ومؤثثاته الصامتة والناطقة من طيور زقزاقة كانت تعيش معنا وفوقنا، تسكن خيالاتنا، نطاردها بأعيننا وبالحجارة كما كان آباؤنا يصطادون منها ما يغني مطبخهم اليومي آنذاك. كانت طيور الدوري المألوفة المسالمة التي تعيش جنبًا إلى جنب مع الطيور الكاسرة، إضافة إلى طيور الحجل والحبرى وغيرها من الطيور التي كانت مستهدفة من القرويين، يجمعون بيضها بمختلف ألوانه وأحجامه، ويتلذذون بلحم طرائدها الطري، إلى جانب أصوات الحيوانات الأليفة كالبغال والحمير والبقر والغنم والمعز والكلاب الأليفة والضالة... جوقة من الأصوات تسمعها كل يوم صباحا ومساء.

كما أنني كنت أستشعر طاقة إبداعية في دواخلي قبل أن أكتب أي نص من نصوصي الإبداعية الأولى في رحلة الكتابة. تمامًا كما لو كنت فنانًا قبل أن أرسم. كنت أراقب وأترقب، وأبحث وأشعر بالأشياء وبالوقت وبالأمكنة. والكتابة بدأت بدافع التعبير بطبيعة الحال عن كل هذه الخيالات... هكذا بدأ التعبير عن الذات في البداية رسمًا، أما أولى نصوصي التي شعرت من خلالها بمدى اهتمامي بالكتابة، وأن ما كتبته كان جميلًا أو مميزًا، فكان في المدرسة، عندما قدمت موضوع إنشاء اعتبره أستاذ اللغة العربية حينها جيدًا جدًا، بشكل لم يصدق أنني صاحبه.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

هل يُمكنُ أن نُحدّد كاتبًا أو كتابًا ما، وندّعي أنّهُ هُو نُقطة التحول التي قادت أقدام أقلامنا الغرّة إلى حقل الكتابة؟

من المؤكد أنه كلما زادت قراءة المرء اتسعت آفاق عقله وتفكيره من كثرة ما يتعلمه. وككل من كان لهم الكتاب خير جليس، لم تكن بدايات عهدي بالقراءة بدون منعرجات ومطبات وعراقيل. فلطالما كنت أشرع في تقليب صفحات كتاب بعينه، وأنا عازم على إنهائه، من البداية حتى النهاية، لكن لم يكن التوفيق يحالفني.. ربما لأن تلك الكتب التي كنت أقبل عليها كانت خالية من دسم عناصر التشويق والإمتاع والإثارة، بقدر ما كانت مثقلة بما هو ممل وغير محفز أو غيره. من هنا كان أسلوب التنقل بين الكتب، وكل يوم تنقطع عن كتاب، وتنتقل لآخر، حتى وقع اختياري يومها، وأنا في مستهل التعليم الثانوي، على كتاب استثنائي بالنسبة لي، وهو كتاب "حياتي" لأحمد أمين؛ لأنه كان بالنسبة إلي أول كتاب أواظب على قراءته من الصفحة الأولى حتى الأخيرة.

ويعتبر كتاب "حياتي" لأحمد أمين، من أشهر كتبه، وكتب الأدب الشخصي التي صدرت في العربية في القرن العشرين. ويقدم هذا الكتاب صورة واقعية لتلك الحياة التي أنتجت ذلك الكاتب، ولعل خير ما يمكن قوله عن "حياتي" هنا، هو ما قاله مؤلفه نفسه في تقديمه طبعته الأولى: "هذا الكتاب كنت فيه العارض والمعروض والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق، أو بمحاولة للتجرد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه".

وندّعي أنّ هذا الكتاب الملهم هُو نُقطة التحول التي قادت أقدام أقلامنا الغرّة إلى حقل الكتابة، حيث تعلمنا من هذا الكتاب الكثير والكثير:

ــ علمني ما معنى التعبير عن الذات، حين ضرب لي مثلًا رائعًا عن شخصية الكاتب المثابر والمنتج، الذي لا يعرف كللًا ولا مللًا، ولا ضعفًا ولا فتورًا، من أجل تحقيق طموحه في الحياة.

ــ تكوّن لدي انطباع بأن ما قرأته في هذا الكتاب قد كتب خصيصًا لي، بل يحدث أن قلت لفنسي بكل سذاجة: "بمقدوري أن أكتب هذا الفصل، وهذا الكتاب"، وشرعت في محاكاته، من خلال كتابة شذرات من حياتي في دفتر ذكرياتي، آثرت تسميته "حياتي"، تيمنًا وتأثرًا بعنوان كتاب أحمد حياتي.

ـــ ساعدني على تكوين شخصيتي في الكتابة، حين انبريت أكتب خواطري وتأملاتي وأشعاري وقصصي.

ـــــ خفف عني حدة ما كنت أعانيه من صعوبات ذاتية وموضوعية، وأنا في بدايات مشواري الدراسي في التعليم الثانوي؛ فكانت الكتابة عن حياتي، فرصة للتعبير عن رغبات محبطة أو متاعب لا شعورية، كما كانت فرصة للتعبير عن لحظات الفرح الممتعة في سيرة حياتي المليئة بالمنعرجات والمطبات. إنه بالفعل نموذج الكتاب الذي يعرف في عالم التربية بـ"كتاب التّعلم" (Livre d'apprentissage).

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

من الكتاب المفضلين لدي في المرحلة الأخيرة الروائي والناقد المغربي محمد عز الدين التازي، لجملة اعتبارات منها أن هذا الروائي صاحب مشروع سردي نهري متدفق، والصوت المغربي الأكثر إنتاجًا في الإبداع السردي والنقد، ومواظبة على الكتابة والنشر منذ أربعين عامًا ("أبراج المدينة" 1978)، محققًا بذلك المسار أكبر كمٍّ روائي وقصصي لأديب مغربي لحد الآن (أكثر من 26 رواية). وهذا ما ضمن له الحفاظ على نفس الوتيرة الإبداعية، والتطور المطرد، من منطلق أساس مفاده: أن التطور الكمي يفرز بين طياته ــــ لا محالة ـــ تطورًا نوعيًا، وهذا ما تشهد به تحققاته النصية، بمختلف موضوعاتها، وتعدد طرائق سردها، كل هذا وغيره، أهّله لأن يكون ـ إن جاز التعبير ـ شهرزاد الرواية المغربية بامتياز.

وأهم ما شدني إلى هذا الروائي أن تجربته الروائية لها بصمة خاصة وخصوصية فنية لا تخطئها عين المتلقي: إنها تجربة بناء الأشكال، والمغامرة في فتح كوى جديدة في البناء الروائي، دون كلل أو ملل... فقد كان التازي من الأوائل الذين فتحوا للرواية المغربية أفقًا روائيًا جديدًا، وأحدثوا، بذلك الصنيع الفني، قطيعة مع نموذج الرواية المشرقية الذي كان مشدودًا إلى النزعة الأنكلوسكسونية في الكتابة الروائية، من حيث ثيمات الكتابة، والمعمار الفني، ووظيفة الكتابة الروائية؛ وبذلك برزت، في المشهد الروائي المغربي، في ثمانينيات القرن الماضي، إرهاصات كتابة روائية ذات مرجعية فرنكوفونية لها مواصفاتها وخصوصياتها... فالتقليد من منظوره الفني، يتعارض مع الحداثة، والتجريب ليس سوى أفق مفتوح للكشف عن الممكن في عالم الكتابة. ففي مساحاته الواسعة، تمتد آفاق بعيد لممكنات التخييل.

هذا التوجه الروائي الطارئ، شكّل آنذاك فتحًا كبيرًا ـ ومثيرًا للجدل ـ لقارة جديدة أمام كتاب الرواية المغربية. ولقد مثل هذا الاكتشاف الجمالي لقارة الرواية الجديدة ـ كما تبلورت في فرنسا ـ ظاهرة روائية فريدة من نوعها، انعكست ظلالها وأصداؤها إيجابًا تارة وسلبًا تارة أخرى على الكتابة الروائية المغربية، التي غدت متعددة المشارب، متنوعة المرجعيات، ثرية على المستوى الأسلوبي، تواقة إلى التجديد والتجريب وارتياد آفاق جمالية غير مطروقة.

كما أنه من مظاهر افتتاني بتجربة التازي الروائية: ثورته الخفية على نموذج الرواية الواقعية ذات التوجه الأيديولوجي، التي أزهرت أفنانها، وأينعت ثمارها، في سبعينيات القرن الماضي، حيث قام التازي ـ بمعية روائيين آخرين ـ بانعطافة قوية في هذا الاتجاه، تحول معها النص الروائي من طغيان تسلط البعد الأيديولوجي المباشر إلى إيثار الحفر عن القيم الجمالية والمعرفية في الكتابة الروائية، وهو ما تسعى نظرية الرواية عامة إلى تكريسه وتثبيته. من هنا، فإن جلّ روايات التازي جاءت من خارج المقام الإيديولوجي الذي يكاد يسيطر على المشهد الروائي المغربي زمنئذ بقوة. وذلك اقتناعًا من الروائي ويقينه بأن الرواية ليست معنية بتقديم بيان سياسي حماسي، ولا الانخراط العضوي في قضايا البلاد والعباد الموّارة من منطلق نظرية الالتزام المشهورة في أدبيات الماركسية.

وأخيرًا أذكر أن علاقتي بالروائي محمد عز الدين التازي أصبحت جد متينة في العقود الأخيرة؛ فهو يعتبرني من قرائه الأوائل، حيث شرفني بقراءة أغلب مخطوطات الروائية، وكان يطلب مني مراجعتها قبل نشرها، والأهم من هذا وذاك فقد كان الرجل يتفاعل مع أغلب ما نقترحه عليه، بروح إبداعية راقية، وبتواضع قل نظيره، وبدون تحرج.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

دائمًا ما ارتبطت القراءة لدي بالكتابة، فكل كتاب أخرج منه بملاحظات وملخصات موثقة، في أي صنف من أصناف الكتابة. فلا أقرأ لمجرد القراءة بل أجعل مقروئي إضافة نوعية إلى اهتماماتي الخاصة، خصوصا وأنني لا أقرأ في السنوات الأخيرة بطريقة عشوائية بل أنتقي من الكتب ما يفيدني، وأستفيد منه في أبحاثي، لذلك عادة ما تكون القراءة مرتبطة عضوية بالكتابة؛ لأن ما هو مقروء معرض للنسيان، لذلك أحرص على تقييد استشهادات أو ملاحظات أو أفكار أو ملخصات حول العمل، لكي أستثمره لاحقًا في أبحاثي ودراساتي.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

من السابق لأوانه الحديث عن علاقة الكاتب العربي بالكتاب الإلكتروني على غرار ما هو موجود في الغرب. صحيح أننا أمام موجة عارمة في بلدان الغرب تستهدف تحويل الكتاب الورقي إلى صيغة (E Book) أو غيرها من التقنيات المستحدثة، لكن مثل هذه التقنيات تستلزم تدريب الأفراد على التعامل مع البرامج، لتحويل الكتب بما يسهل قراءتها على الأجهزة الحديثة، مثل (Kindle eBooks) و (IPad) وغيرهما من الأدوات المستحدثة، وهذا التدريب نرى أنه غير متوفر عند أغلب كتابنا في عالمنا العربي. كما أن هناك مشكلة أخرى مرتبطة بعملية اقتناء الكتب بشكلها الإلكتروني، وتتعلق بطرق دفع ثمن تلك الكتب الإلكترونية؛ إذ لا بد من توافر طرق الدفع السهلة، وهو ما ليس متاحًا لدينا في مجتمعاتنا العربية التي تعاني من الكثير من المشاكل الاقتصادية، إضافة إلى عدم توافر شبكة إنترنت سريعة للتعاطي مع مثل هذه التقنيات. من هنا يظل الكتاب الورقي إلى جانب الكتب المحولة بصيغة (PDF) هي التي تعتمد لدى القارئ العربي، من هنا فعلاقتي بالكتاب الورقي ما زالت قائمة، ومستمرة، ووطيدة، لكنني في الآن عينه أستعين بكل ما يتاح لي من مراجع تتيها لي الشبكة العنكبوتية والتي أصبحت تطلع بدور مهم في تيسير البحث عن المراجع التي يرغب في قراءتها كل راغب في ذلك...

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

صحيح أنه في الماضي، كانت المكتبة المنزلية تشكل مرفقًا حيويًا من مرافق المنازل التقليدية؛ لأنها وجدت لتؤدي خدمات وأنشطة متنوعة، ولتحقّق أهدافًا تربوية وتعليمية وثقافية واجتماعية، تكسب أفراد الأسرة التعلم الذاتي، وهو هدف أساس من أهداف التربية، حيث تغرس في صميم هذه الأسرة، صغيرها وكبيرها، عادة المطالعة الحرة، وتجعلها جزءًا من حياة ساكنة المنزل، فهي بالتالي بمثابة قلب المنزل النابض والرئة التي يتنفس منها أفراد الأسرة لاكتساب المعرفة الإنسانية من كل جوانبها... هذا التقليد أصبح يتقلص شيئًا فشيئًا؛ فقد أضحت المكتبة المنزلية من الكماليات، في حين غدت وسائل الفرجة المتنوعة والمتعددة من الضروريات، من قبيل التلفاز الذكي، والهاتف الذكي والحاسوب الذكي، لذلك تراجع اهتمام أبنائنا بالمكتبات عامة، والمكتبة المنزلية خاصة. أما مكتبتي فهي مرتبة ترتيبًا يعتمد على طبيعة الانشغالات التي أنخرط فيها. وأهم ما في مكتبتي هو كونها مرتبة من خلال صفوف تحيل على أنواع السرديات المعاصرة والقديمة، وذلك من قبيل: روايات، ومجاميع قصصية، وسرود قديمة، إضافة كتب نقدية في السرديات، ناهيك عن صفوف أخرى مرتبطة بالتربية والتكوين، وهو مجال عملنا المهني، ناهيك عن كتب أخرى في مجالات الفكر والشعر والمسرح... تجد لها موقعًا معينًا في مكتبتي، لكنها لا تحتل موقع الصدارة، بحيث لا تكون في موقع بارز، بحيث تقفز إلى العين كما يقال. ومقابل المكتبة الورقية، أتوفر في حاسوبي على مكتبة رقمية هائلة موازية، فيها كل فنون الكتابة من إبداع ونقد وفكر وفلسفة.. ألجأ إليها بين الفينة والأخرى بحكم سهولة الوصول إليها، والاستفادة منها بطريقة مرنة.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أنا الآن معتكف على قراءة كتاب "تحديات الناقد المعاصر" لجابر عصفور (دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2014)، فأنا أستفيد من هذا الكتاب من منطلق اهتماماتي كناقد أدبي أولًا، ثم من زاوية استشراف آفاق النقد العربي ثانيًا، وأخير أستفيد من وجهة نظر ناقد كبير متمرس وخبير وجهبذ من عيار جابر عصفور الذي له كعب عال في مجال النقد الأدبي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة تحسين رزاق عزيز

مكتبة إبراهيم درغوثي