23-أبريل-2018

الكاتب أزهر جرجيس

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


أزهر جرجيس كاتب من العراق يقيم في النرويج. عضو نادي القلم العالمي للكتّاب. صدر له في العام 2015 كتاب "فوق بلاد السواد ـ قصص وحكايات ساخرة". وفي العام 2017 صدر له كتاب "صانع الحلوى" وهي مجموعة قصص قصيرة. له العديد من المقالات والقصص المنشورة في الصحف والدوريات العربية المختلفة، ويعمل في الوقت الحالي مترجمًا لدى مؤسسة تيليمارك للأدب والتراث النرويجي.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

حين تجاوزت العاشرة بعامين تقريبًا، وإذ كبرت العائلة وازداد عدد أفرادها، قرّر أبي، المعلّم آنذاك، أن يفتح مشروعًا تجاريًا صغيرًا، ليُزيد به دخلنا الشهري. كان المشروع مكتبة صغيرة لبيع الكتب والصحف والمجلات. وكان أبي، لما في دمه من عشق للقراءة، قد حرص على أن يملأها بالكتب والإصدارات الجديدة، فكانت عامرة بذلك. لكنّه، ولانشغاله بالوظيفة، كان قد أمر أن نساعده في الوقوف في المكتبة مداراةً لباب رزقنا الجديد، وأن نكون حريصين على تنفيذ المهمة. أتذكر بأنّه حين أصدر أوامره بذلك، أُصِبتُ بحزن شديد، كوني سأضطر لتوديع اللعب في الشارع رفقة أصدقائي الحفاة. كنّا نلعب الكرة حفاةً، والله. ولكنّي وبعد ساعات قصيرات من الوقوف كبائع كتب صغير، امتدت يدي نحو كتاب، كان قد رُسمت على غلافه صورة شاب أفندي أنيق، يسير في حيّ شعبي. وكان برفقة ذلك الأفندي صنيورة تتلفّع بعباءة سوداء، وتلفّ بعض شعرها بمنديل مزركش جميل. جذبني الغلاف، لحظتئذ، ففتحته وشرعت بقراءة أول كتاب في حياتي. كانت رواية "زقاق المدق" للروائي الخالد نجيب محفوظ. هذه الرواية أصابتني بمرض القراءة اللذيذ، وجعلتني عاشقًا متيّمًا بالكتب، و"عاملًا" مطيعًا في دكّان أبي الصغير.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيراً في حياتك؟

من الصعب تحديد ذلك، فالعمر محطات، ولكل محطة ما نعتقد، أو نظن، أو نتوهّم، بأنّها قد تأثّرت به. ففي محطة المراهقة، مثلًا، أظن بأنّي قد تأثرت بقصص وروايات إحسان عبد القدوس، كـ"النظارة السوداء"، و"صانع الحب"، و"الراقصة والسياسي"، وغيرها. ورغم أنّ أبي كان ينصحني بعدم الاقتراب من كتب عبد القدوس لما فيها من حديثٍ جنسيّ لا يناسب عمري، إلا أنني قرأت كل ما وصلنا منه. كان أبي يقول لي بأنّي ما دمت محبًّا للأدب العربي، فالأفضل لي قراءة قصص وروايات نجيب محفوظ، والابتعاد عن إحسان عبد القدوس. لكنّي اخترعت طريقة لعناده من أجل قراءة كل ما يكتبه هذا الأخير. أتذكر بأنّي كنتُ، سامحني الله، أخلع الروايتَين وأبدّل غلافَيهما، فيظن أبي بأنّي أقرأ نجيب محفوظ، بينما الحقيقة هي أنّي مندمجٌ، ذائبٌ في حديث عبد القدوس اللذيذ.

كانت هذه البداية، ولكن في محطة الشباب اختلف الأمر كثيرًا، فقد هاج لديّ عقل الشباب الباحث عن الحقيقة، أو المتوهم لذلك، مما دعاني لطرق باب الفلسفة ومصائبها، فقرأت ما كان يصل من كتب مستنسخة لنيتشه وشوبنهاور، وتأثرت بالأخير كثيرًا حتى بدت الحياة، في عينَيّ، نفقًا مظلمًا لا نور في نهايته. لكنني، وبعد انطفاء جذوة مقتبل العمر، عليها الحسرة، عدتُ إلى رشدي كقارئ نهم لكتب الرواية والسيرة والقصص، وبات الأدب اللاتيني بشكل عام هو الأكثر بياضًا واستقرارًا، والأكثر تأثيرًا في حياتي.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

ماركيز، بلا شك. فهذا الرجل، الذي قرأت كل ما كتبه، وسمعت كل ما قاله، وحفظت كل صوره في ملف خاص على جهاز الحاسوب الخاص بي، هذا الرجل الأديب أثّر بي كثيرًا، وجعلني متيّمًا بالأدب اللاتيني بوجه خاص، والعالمي بشكل عام. ولو سألتني عن السبب وراء ذلك، لقلت لك ما قاله أحد عشّاق نادي ريال مدريد حين سُئل: "لماذا تحب ريال مدريد؟" فقال: "لأنه ريال مدريد". أنا، كذلك يا صاحبي؛ أحب ماركيز لأنه ماركيز، بل أجد، والكلام بيننا، بأنّه يستحق لقب: إله القَصّ. إي والله، فالإله ماركيز، ولشدة براعته، يخلق لي في كل مرة حكاية غريبة، ويجعل الأمور تختلط عليّ، كقارئ، فأظن ما هو متخيّل حقيقةً ناصعة، وما هو واقعٌ محضَ خيال. إنه أديب عظيم، لعن الله التراب الذي ينام فوق أضلاعه.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

في العادة، حين أشرع بالقراءة أمسك قلمًا أحمر لكتابة بعض الهوامش أسفل الصفحة، وجرّ الخطوط تحت ما يعكّر صفو القراءة من أخطاء إملائية وطباعيّة. بعض الكتب، للأسف، تجد في كل صفحة ما يستحق أن يوضع تحته خط أحمر، وهذا ما يجعلك، كقارئ، تتساءل: أين دور النشر من هذه الكوارث اللغويّة؟ ولماذا تتم الاستهانة، في العالم العربي، بالكتاب بهذا الشكل الفاضح؟

  • هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

إطلاقًا، فما زلت أحرص على اقتناء الكتاب الورقي، بل ما زلت حريصًا على اختيار دار النشر التي أشتري منها الكتب. ورغم شحّة المكتبات العربية، ههنا، إلا أنّني لا أقترب من الكتاب الإلكتروني بتاتًا. هذا النوع من الكتب، بالإضافة إلى كونه، في الغالب، نوعًا من القرصنة، وتعديًّا سافرًا على حقوق الناشر والكاتب، فإنه يسبّب لي ألمًا في عيني، وصداعًا في رأسي، لا يزول إلا بتناول خمسة وستين فنجان قهوة عربية، مع ثلاث وثلاثين حبّة بنادول حجم 10 غيغا.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

في الواقع، لي ثلاث مكتبات، الأولى صغيرة، أعدمتها أمي قبل ثلاثين عامًا، حين شعرت بأنّي في الطريق إلى دروب الانحراف. المسكينة كانت قد أرعبتها صورة الخال كارل ماركس على غلاف كُتيّب صغير، فأحرقت المكتبة خوفًا عليّ من "الشيطان أبو لحية". والثانية كانت عامرة؛ تضم ما يقارب الألف كتاب، أحرقت زوجتي جزءًا منها، بعدما داهمتنا مفرزة الأمن وألقت القبض عليّ، قبل سبعة عشر عامًا، وباعت الجزء الآخر إلى صاحب مكتبة انتهازيّ، دفع لها ثمنًا بخسًا. أما الثالثة، فقد جمعتها، وما زلت أجمع بها، بعناء كبير، لافتقار المدن الأوروبية عمومًا، والنرويج خصوصًا، إلى مكتبة عربية، ولصعوبة وصول الكتب من العالم العربي عبر البريد، وغلاء أجور النقل هناك. مع ذلك، تضم مكتبتي الناشئة عدة مئات من العناوين، تشكل كتب السرد والسيرة العمود الفقري لها، وما بقي يتوزّع على الشعر والفلسفة وكتب التشكيل.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

"مذكرات ديمتري شوستاكوفيتش"، الصادر عن "منشورات المتوسط"، من إعداد: سولومون فولكوف، وترجمها عن الإنجليزية: محمد حنانا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة فارس كامل

مكتبة طارق العربي