ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


أحمد أبازيد باحث سوري مختص بالشأن السياسي والوضع الميداني، نشر دراسات في مراكز عربية وغربية حول الوضع السوري، وشارك في عدة كتب عن سوريا.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

كان في بيتنا مكتبة صغيرة لوالدي تضم مجموعة من كتب التراث في غالبها، ما زلت أذكر هذه الكتب القديمة بأغلفتها ورائحتها وترتيب عناوينها أكثر من الكتب التي قرأتها العام الماضي.

كان هناك اشتراك مجلة ماجد، وأتذكر أن أمي أهدتنا قصصًا من المجلة الخضراء في عمر مبكر، وتذكرت الآن مع سؤالك أن أول مكتبة عامة زرتها كانت مكتبة حديقة حمزة في عمّان، كنت في الصف الثاني ربما، وكان هناك قصص أدبية مصورة: مغامرات توم سوير.

أصبحت أرى المكتبة في عمر مبكر باعتبارها ذلك العالم الحميمي والهادئ حيث يمكنك الانعزال والاكتشاف بلا نهاية محاطًا بشعور السكينة والأمان.

زرت الكثير من المكتبات العامة بعد ذلك، لعلّ أكثر مكتبة ملّت مني ولم أملّ منها هي مكتبة الجامعة الأردنية في عمّان حيث كنت أجلس من الصباح حتى الليل، زرت مكتبة دمشق المسماة مكتبة الأسد أيضًا، ومكتبة المركز الثقافي في درعا، وزرت مكتبات بعد إخلائها أو احتراقها في حلب القديمة، وبحثت عن المكتبات العامة في كل مدينة مررت منها، كانت هذه طريقة مضمونة لأكسر الحواجز مع المدن التي تنقلت أو تشردت فيما بينها، في مدينة غريبة تحتاج إلى امرأة أو مكتبة.

عودةً إلى سؤالك فقد أصبحت قارئًا محترفًا أو مدمنًا بعد ذلك، بعمر 11 عامًا تقريبًا، أصبحت أقرأ بشكل يومي، غالبًا من الكتب الموسوعية التراثية (أمهات الكتب): الكامل في التاريخ ومعجم البلدان وتفسير القرطبي وكتاب سيبويه... إلخ، وكلاسيكيات الأدب العالمي.

انقطعت بسبب الكتب مبكرًا عن الشارع واللعب، قيدتني سلطة المعرفة، وربما تشجيع والديّ أو منافستهم.

جدتي –رحمها الله- كانت دائمًا تنظر إلي بينما أقرأ وتسألني باستياء: هاي الكتب قراية مدرسة أو هيج؟، فأخبرها ضاحكًا: والله هيج يا جدة.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

في الأمن العسكري في درعا سألني المحقق سؤالًا مشابهًا في مراجعة روتينية، كان عمري 18 عامًا، بدأت أعد له الكتب التي قرأتها، ملأ صفحتين إلى أن ذكرت كتابًا يعرفه فقاطعني وأثبت لي أنه مثقف أيضًا.

أحيانًا نملك قصصًا وتجارب مع الكتب تترك لها بصمة في حياتك أكبر من تأثير ما قرأته ونسيته فيها.

أول كتاب قرأته كاملًا وكررته كان العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، أدين له بمخزوني الأول من الشعر العربي ومعرفتي بالأدب، أول كتاب استعرته من المدرسة كان رواية البؤساء لفيكتور هوغو، وأول كتاب اشتريته كان عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري، اقتنيت أيضًا مؤلفات علي الطنطاوي في البدايات، وكان هناك موسوعة علمية مصورة اسمها "بهجة المعرفة" كنت أتصفح دومًا مجلد الكون منها، اتبعت المسار العلمي في الدراسة وما زلت أحب علم الفلك والفيزياء الحديثة بسبب هذا الكتاب.

هناك كتب تحدث لك تحولات فكرية، وكتب تمسّك بجمالية لا تُنسى كأصابع حبيبة أولى: طوق الحمامة، بلدي داغستان، الإخوة كارامازوف... أو ربما كطعنة في الصدر: كرواية القوقعة وأعمال أمل دنقل.

تخطر لي قصة طريفة، كنت بعمر 14 عامًا حين ذهبت بمدخراتي إلى مكتبة قديمة في وسط البلد بعمّان واشتريت كتاب الأغاني للأصفهاني وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، صاحب المكتبة رضي أن يعطيني حسمًا أكبر للكتابين، فدفعت له كل ما أحمل، ولم أملك بعد ذلك أجرة طريق، عدت غالب الطريق مشيًا حاملًا قرابة 30 مجلدًا، تمزقت الأكياس عدة مرات، وقضيت ساعات حتى المغرب لأصل إلى المنزل في عمّان الغربية، لم تكن قد انتشرت الأيفونات وقتها، أهلي كانوا بدؤوا يبحثون عني في المشافي.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

لا أعتقد أن أحدنا لديه كاتب مفضل، هم دائمًا مجموعة كتّاب، لكلّ منهم مجاله أو سحره أو قصتنا معه في مرحلة ما لنبحث عن كل كتاباته.

في التراث العربي بحثت عن كل ما كتبه الجاحظ والتوحيدي.

وغرقت فترة بالأدب الروسي، خاصة الثلاثة الكبار: تولستوي، ديستويفسكي، وتشيخوف.

في الأدب اللاتيني أفضّل ماركيز طبعًا، وبورخيس عاشق المكتبات، وإدوارد غاليانو.

في الرواية الغربية –إن صحت التسمية- أحببت أمبرتو إيكو وأورويل وكازانتزاكيس.

في الرواية العربية أحببت عبد الرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا، وأفضّل اليوم ربيع جابر، قرأت له مؤخرًا طيور الهوليداي إن.

سؤال الكاتب المفضل يحيل مباشرةً إلى الأدب، لأننا نميل لاعتباره الأكثر ذاتية، مقارنة بأنواع الكتابة الفكرية والبحثية التي نميل لوصفها بالموضوعية لمدحها، رغم أننا نفضّل كتابًا ومفكرين بعينهم أيضًا نميل لقراءة غالب أعمالهم، قد نبقى مقتنعين بأفكارهم أو نتجاوزهم بعد ذلك، شخصيًا أدين لمؤلفين عديدين على هذا الأساس من بينهم: ماجد فخري وهشام جعيط وعبد الله العروي وبرهان غليون وعزمي بشارة، وأيضًا فرويد وحنه أرندت وعلي عزت بيغوفيتش وبرتراند راسل في تأريخه للفلسفة.

ولكن غالب قراءتي في السنوات الأخيرة كانت بحثية وتقنية بحتة عن مواضيع بعينها تخص سوريا غالبًا.

أرجو أن تعذرني لأنني ذكرت أسماء كثيرة بينما سألتني عن واحد، أشعر أنني في مناسبة لشكر هؤلاء الأصدقاء الذين تعلمت منهم وعشت معهم، وأعتذر ممن لم أذكره وهم كثر.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأ عادة؟

في مطار دولة عربية تمت مصادرة دفتر ملاحظاتي، وكان في غالبه ملاحظات عن الكتب، المحقق هناك أيضًا أعطاني شهادة رضا عن ثقافتي بعد شهادة المحقق السوري.

في الحقيقة عادتي متغيرة بهذا الجانب، ولكنني أميل إلى أن أمسك قلمًا بينما أقرأ الكتابات ذات الطابع الفكري أو البحثي، أحيانًا أكتب على الكتاب نفسه، وأحيانًا في دفتر جانبي، أو أكتفي بوضع خطوط تحت الكتابات المهمة لأراها أولًا حين أعود للكتاب.

قضيت فترة أكتب مراجعة للكتب التي أقرؤها على موقع goodreads، والذي يشكل حديقة سرية خلفية متروكة للكتب والقراءة في ازدحام السوشيال ميديا، اليوم أنظر لمراجعاتي تلك باستغراب.

حين كنت أحضر أو أنظم جلسات لنقاش الكتب، كنت أكتب الكثير من الملاحظات مما يُطرح في النقاش، كان هناك نادي كتاب ثري في عمّان استمر قرابة العامين، ثم كان لدينا نادي كتاب في حلب المحررة –سابقًا- مع بعض الأصدقاء ورفاق العمل الثوري، استمرّت لقاءاتنا حتى التهجير من المدينة، ناقشنا هناك غالبًا كتبًا عن تاريخ الثورات ونظريات التحرر مثل معذبو الأرض وتعليم المقهورين، استمررنا لاحقًا بلقاءات افتراضية.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

هذا أكيد، احتفظت بحبي وتفضيلي للكتب الورقية، لا يمكنك الانعتاق من السر الدافئ في رائحة الكتب القديمة، ولكنني قرأت الكثير من الكتب إلكترونيًا، واستغربت أنني كنت أقرأ إلكترونيًا بشكل أسرع.

أتاحت لي المكتبة الإلكترونية الاطلاع على كتب كانت صعبة الوصول أو نفدت طبعاتها، وأن أراكم عددًا من الكتب أمامي للبحث بينها في أي وقت أو مكان، كما كنت أفعل في المكتبة العامة، المكتبة الإلكترونية تتيح لك خيارات واسعة للبحث والمعرفة وهي أداة ضرورية اليوم، وأعتقد أنها تزيد من مبيعات الكتب الورقية وليس العكس.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

عن أي واحدة منهم؟ مكتبتي الأساسية في عمّان، ضاعفت مكتبة العائلة عدة مرات مما اقتنيته، وحين لم تعد خزانات الكتب تتسع استعملت الطاولات، ثم أصبح هناك أعمدة كتب على الأرض، قرأت معظمها، وكتبت على عدد كبير منها، وقعت على كل كتاب بتاريخ قراءتي له.

ولكن حين غادرت إلى سوريا بعد الثورة، انقطعت عنها، وأصبحت أحضر الكتب معي إلى حلب، لم أفكر بتأسيس مكتبة منزلية هناك لأنني تنقلت بين عدة أماكن وبيوت في الحركة الدائمة التي تخلقها الثورة والحرب، ولكنني في النهاية جمعت مكتبة صغيرة مما أحضرته معي أو مما اشتريته من مكتبات حلب، في الشهر الأخير من عام 2016، تعرض المنزل للقصف، تضررت الكتب ولكنها لم تتلف، بعد ذلك بأسابيع خرجنا من حلب، في الرحيل الكبير لم أحمل معي شيئًا سوى سلاحي الشخصي وشنتة كتف تضم أوراقي وبعض هذه الكتب، تركت كتبًا أخرى هناك لتتذكرني في المدينة.

بعد ذلك تركت كتبًا أخرى في إدلب، وكتبًا في إعزاز، في الباب، في غازي عنتاب التركية، وأنطاكيا، وأخيرًا في إسطنبول حيث بدأت أقتني الكتب من جديد مؤخرًا. تكوين مكتبة دلالة استقرار، وهذا ما نخشاه كسوريين موزعين في المنافي.

ولكنني أعتقد أن لدي مكتبة أوسع من أن أختصرها في مكان واحد، أهديت كتبًا كثيرة لأصدقاء، وكتبًا أكثر إلى فتيات، تركت كتبًا في كل مدينة نزلتها، وارتدت مكتبات عامة وتجارية عديدة، ونصحت كل من سألني بعناوين لقراءتها.

أشعر وأنا أتأمل ذاكرتي مع الكتب منذ دفء المكتبة الأولى، أنها شراييني اللامرئية نحو العالم، وأوردةٌ منه عابرة للزمن تمدّني بطاقتها الخفيةّ للحياة، هذه الكتب المتناثرة هي جسدي الموزع بين مدنٍ وبيوت وقلوب وذكريات بعيدة، ولكنني ما زلت هناك بطريقة ما، لأن كتبي هناك تنبض وتراقب.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

حاليًا أقرأ نسخة ما قبل النشر من مذكرات الدكتور برهان غليون والتي يفترض أن تصدر في ذكرى الثورة السورية في 18 آذار/مارس القادم، أعتقد أنها شهادة مهمة وثرية بالأسماء والأحداث والمعلومات، وستخلق ضجة وجدلًا كبيرًا حولها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة ربيع محمود ربيع

مكتبة نجاة عبد الصمد