14-أكتوبر-2015

مقاتل كردي في الحسكة(فابيو بوتشيرلي/أ.ف.ب)

منذ بداية الثورة السورية كان من السهل لعين المراقب توقع مآل المسألة الكردية إلى الحال الذي وصلت إليه الآن. فالبنية الهشة للمجتمع السوري تطغى عليها الطائفية والاثنية والعشائرية وجاء نظام الاستبداد ليهيمن عليها بحكم سلطاني جائر محافظًا على كل البنى التقليدية لمؤسسات المجتمع.

وعندما طُرح مفهوم الحرية من خلال التظاهرات الشعبية للشعب السوري الذي يطمح لحياة أفضل، كان البديل هو الفوضى وشرعنة دور البنى الاجتماعية القائمة وحقها في إدارة أحوالها وحماية نفسها من الطرف الآخر المتفق عليه وطنيًا بأنه الشعب السوري والمختلف عليه اثنيًا وطائفيًا وعشائريًا مرةً أخرى. وبسبب غياب الدولة الوطنية والمساواة بالحقوق، كان من الطبيعي أن تظهر إلى السطح مظلوميات قديمة تدغدغ الطوائف الاجتماعية على كل أشكالها الدينية والاثنية والطائفية وذلك من أجل تبرير وتمرير المصالح الخاصة التي تعلو على مصلحة الدولة الوطنية، حتى لو أخذت هذه الطوائف الاجتماعية شرعيتها من الأعداء الحقيقيين للدولة بل وقد تتجاوز ذلك إلى حد السماح باستجلابهم، وليس من عجائب الأمور معرفة الدور الاستعماري القديم – الجديد لإسرائيل وغيرها في الدفع نحو هذه الانقسامات.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لن تحدث حرب أهلية في تركيا؟

دعا رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، عوزي ديان، في شباط/فبراير 2012، إلى دعم انفصال الأكراد وإقامة دولة في شمال سوريا، مشيرًا إلى أن ذلك يمنح إسرائيل فرصةً كبيرة لتحقيق مصالحها في المنطقة، فما هو الدور الحقيقي للأكراد في الثورة السورية تجاه ما سبق؟

تاريخ ليس ببعيد

يمكن تقسيم أكراد سورية إلى "مجتمع الدواخل" و"أكراد الأطراف"، أما بالنسبة لمجتمع الدواخل فهم الأكراد الممتدين منذ عصر الدولة الأيوبية والذين انتشروا على الساحل الشامي ويطلق عليهم لقب "أكراد الشامية"، وحي ركن الدين في دمشق هو أكبر تجمع لهم في العصر الحديث، ويعتبر هؤلاء جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية في سورية وبكافة المراحل. فقد أثبت التاريخ أن دور هذا المكون السوري كان كبيرًا جدًا في الدفاع عن قضايا الأمة بمفهموها القومي والوطني ولنا في يوسف العظمة وإبراهيم هنانو خير الأمثلة في تاريخ سورية الحديث وهما يعتبران أيقونة من أيقونات النضال ضد المستعمر.

أما "أكراد الأطراف" فهم الأكراد الذين هاجروا إلى الجزيرة السورية منذ عشرينيات القرن العشرين ولم تتجذر هويتهم السورية لأن معظمهم كانوا من أكراد تركيا والذين دفعتهم ظروف ثوراتهم ضد معاهدة لوزان التي دمرت كيانهم الكردستاني في تركيا إلى النزوح نحو الجزيرة بالمئات والآلاف حتى أواخر عام 1970، ومعروف عن هؤلاء أنهم كانوا يديرون الصراع من سورية من أجل استعادة حقهم في أرضهم التاريخية داخل كردستان تركيا.

كان من أكثر ما شجع هذه الهجرات نحو الجزيرة هو الانتداب الفرنسي في منتصف العشرينيات من القرن المنصرم، وذلك ضمن خطة فرنسية لتقسيم سورية إلى أقاليم وكان أحد هذه الأقاليم هو الإقليم الكلدو آشوري – كردي، ومن المعروف أيضًا أن قدري جميل باشا، أحد الزعماء الكرد من كردستان تركيا، وقف في وجه هذا المشروع لأنه كان يعتبره بمثابة وطن بديل عن كردستان تركيا، وهذا يذكرنا بالمشروع الإسرائيلي لاستبدال فلسطين بالأردن وطنا للفلسطينيين. ومن هنا يُثبت تاريخ أكراد الاطراف، وهم الأكثر مطالبةً بإقامة كيان كردي في سورية، أن قضية أكراد سورية هي قضية تركية وليست سورية بالدرجة الأولى.

أحزاب الكرد والثورة السورية

على المستوى السياسي كان تعاطي الأحزاب السياسية الكردية مع الثورة السورية في بداياتها هو دور المراقب من أجل معرفة أين يمكن أن ترجح الكفة، ومن هي الجهة التي يمكن أن تستفيد منها في الحد الأقصى إن كان النظام أو المعارضة، وللأسف فقد بدا هذا التعاطي كردستاني الطابع وليس سوريًا كرديًا، ومنذ بداية الثورة بدأ يتغير الخطاب المطالب بالحقوق الثقافية وحق تقرير المصير إلى خطابات مثل "المناطق الكردية، حق تقرير المصير وإدارة شؤون الشعب الكردي في أرضه التاريخية، العرب في الأراضي الكردية.. إلخ"، وبكل الأحوال فهذا الخطاب ليس بريء الغايات ومبني على تدليس معلومات تاريخية وجغرافية عَلا صوتها بسبب النفق المظلم الذي تمر به سورية.

في بداية الثورة السورية اكتفت الأحزاب الكردية بدور المراقب 

لقد كان المرسوم التشريعي رقم (49) الصادر عن بشار الأسد 2011، يقضي بتسجيل أكراد الحسكة وإعطائهم الجنسية العربية السورية ثمرة التقاء مصالح الطرفين، ومحاولة لاحتواء الأكراد قبل أن يستجيبوا لدعوات التظاهر والتي بالفعل تم ضبطها من قبل الأحزاب الكردية، ورغم قيام بعض التظاهرات المتفرقة والمستقلة هنا وهناك فقد كان النظام حريصًا على أن لا يسقط شهيد كردي واحد من أجل تثبيت هذا الاحتواء. واغتيال مشعل التمو يعود ليؤكد هذه النظرية، فالتشييع الذي رافق جثمانه كان بمئات الآلاف، بينما لم تتجاوز أكبر تظاهرة كردية مستقلة الألف متظاهر.

لم تحاول المعارضة السورية آنذاك توجيه أي انتقاد لسلوك الأحزاب الكردية المهادن للنظام، بل على العكس قامت بتقديم كافة المغريات، وفي الكثير منها كانت تنازلات غير وطنية، من أجل استمالة الأكراد، وعندما نتحدث عن محاولة لاستمالة الأكراد فنحن هنا نتكلم عن أشخاص ليس لديهم فعل كينونة الثورة بقدر ما سيتم هذا الفعل بمنطق المصالح الكردية الضيقة لا الوطنية السورية، وبالفعل خرجت جمعة آزادي من أجل تحقيق انخراط فاعل للأكراد في الثورة السورية وقد حققت هذه التسمية الانخراط، الشعبي لا الحزبي، للأكراد في غالبية المدن التي تقطنها أكثرية كردية وإن بقي هذا الانخراط غير الحزبي محدودًا تراقبه الأجهزة الأمنية دون أن تقوم بأي رد فعل اتجاهه.

وتحت ضغط التنسيقيات الكردية التي كانت تتبنى مطالب الثورة السورية انضم العديد من الأحزاب الكردية وخاصة حزب الاتحاد الديمقراطي إلى هيئة التنسيق من أجل ضمان بقاء قنوات اتصال بينهم وبين النظام، وسجل تيار المستقبل الكردي أول انسحاب من هيئة التنسيق وانضمامه إلى جهات المعارضة الخارجية والذي ما لبث أن خرج منها بسبب عدم الاتفاق على تسمية "الجمهورية السورية" بدلاً من  الجمهورية العربية السورية، ثم ما لبثت أن توالت الانسحابات الكردية في كثير من المؤتمرات وكان لهذه الانسحابات بالغ الأثر في إظهار أن المعارضة الخارجية منقسمة على نفسها، بعد ذلك صدر الإعلان عن "المؤتمر الوطني الكردي" في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2011 والذي بدأ يطرح عنوانًا سياسيًا قوميًا للأكراد في سورية ليس أولها غرب كردستان وليس آخرها العرب في كردستان الغربية.  

حوارات متعددة.. سيناريو واحد

الخبرة الطويلة في العمل السياسي لدى الأحزاب الكردية جعل موقفها من النظام والمعارضة موقفًا ابتزازيًا، فقناعتها بدايةً أن النظام كان قادرًا على اقتلاع ثورة الشعب السوري وضعتها في موضع التريث، ثم ما لبثت بعد انهيارات متعددة لمواقع النظام أن انضوت تحت قيادة البارازاني، وبُدِءَ بتدريب شباب ومجندين أكراد لاستلام المناطق التي انسحب منها النظام.

الخبرة الطويلة في العمل السياسي لدى الأحزاب الكردية جعل موقفها من النظام والمعارضة موقفاً ابتزازيًا

لا يبدو أن هناك رابحاً في الحرب السورية سوى الأكراد، فقد قاتلوا حيث أرادوا واستفادوا من دعم الجيش السوري في رأس العين مثلاً، وظهور داعش كان عاملًا إضافيا لتبرير جميع التحالفات التي قامت بها الأحزاب وخاصةً "الوحدات" المرتبطة بحزب العمال الكردستاني"، فقد اتفقت مع الجيش السوري في الحسكة، وتحالفت مع الجيش الحر في حلب وريفها وريف الرقة، وسيطرت على محالج القطن والمواقع النفطية.. إلخ، وسابقًا قاتلوا تحت مظلة الأجواء الأمريكية وتمت السيطرة على تل أبيض واستجلاب نموذج إداري مستقل اقتصاديًا وسياسيًا وإداريًا ولا علاقة له بالثورة وأطرافها، والآن ومع دخول الاحتلال الروسي إلى سورية تدفع المظلة الجوية الروسية باتجاه تفعيل التعاون بين الأكراد والجيش السوري، وهناك العديد من الأخبار المسربة عن تواصل بين الأكراد والنظام منذ أشهر وقد توجت هذه الاتصالات بالسيطرة على"شيخ مقصود" وطرد فصائل الجيش الحر منها.

خلاصة لا بد منها

جميع المعطيات على أرض الواقع تشير إلى اتجاه شديد نحو انفصال الأكراد في إقليم تاريخي جغرافي مُتخيل، وهذا الانفصال هو ضرب لوحدة سورية وسيادتها وسيطرة على مقدراتها، فالأكراد الذين يشكلون 9% يريدون السيطرة على مقدرات اقتصادية تتجاوز الـ 50% من الناتج المحلي السوري في الوضع الطبيعي، ناهيك عن مساهمة الأكراد في تشتيت ثورة العدالة والديمقراطية التي تشملهم كأكراد سوريين وليس كردستانيين، ومن الصعب جداً ضمن هذا الوهن الشديد الذي يعيشه الجسد السوري أن نوجه أي دعوات بريئة تجاه تذكير الأكراد بأن حقوق المواطنة والمساواة والحقوق الثقافية للأكراد كانت على رأس الثورة السورية، التي يتم طعنها من الأعلى ومن الوجه ومن الخلف، حتى تحولت شعاراتها إلى حقوق إقليمية أصبحت أسطورية لدى البعض، وطائفية لدى البعض الآخر، وبقيت لدى المؤمنين بها ثورة حرية وعدالة ديمقراطية لدولة ذات سيادة وطنية كاملة في بُعديها التاريخي والجغرافي.

اقرأ/ي أيضًا: من الجامعة إلى قوات الدفاع الذاتي الكردية