تتنوّع تسميات المقبرة في الجزائر، وأشهرها "الجبّانة" و"المدينة". وتحظى بنظرة تقديس من طرف السكّان الذين يخصّصون لها أعلى الأماكن. غير أنّهم يتفاوتون في العناية بها تشجيرًا وتسييجًا وتنقية.

تحظى المقابر في الجزائر باحترام شعبي ونظرة تقديس، كون معظم المقابر تُنسب لأولياء صالحين مبجلين شعبيًا

ولم تأتِ هذه النظرة الخاصّة من سلطة الموت والموتى فقط، بل من كون معظم المقابر تُنسب إلى أولياء صالحين مبجّلين شعبيًا، مثل مقبرة سيدي أبي التقا، في برج بوعريريج، ومقبرة سيدي الخير في سطيف، ومقبرة سيدي يانس في الأغواط ومقبرة سيدي بن حوّى في مستغانم.

اقرأ/ي أيضًا: قصر الرومية بالجزائر.. قصة حب ملك أمازيغي

وتأتي "مقبرة العالية" على رأس المقابر الأكثر شهرة في الجزائر، ليس لأنها واقعة في عاصمة البلاد، التي تضمّ عدّة مقابر كبيرة مثل مقبرة القطّار ومقبرة سيدي الطيب ومقبرة سيدي يحي، بل لأنها مدفن الشخصيات الكبرى، مثل الأمير عبد القادر، الذي جلبت رفاته من دمشق عام 1964، وكذلك الرؤساء هواري بومدين ومحمد بوضياف وأحمد بن بلة والشاذلي بن جديد وعلي كافي.

هذا إلى جانب شخصيات ثقافية وفنية ورياضية وثورية وعسكرية معروفة، مثل الفنانة وردة الجزائرية والروائي الطاهر وطار، وعبد الرزاق بوحارة قائد الفيلق الجزائري في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

ويجهل معظم الجزائريين أصل تسمية المقبرة، ويُلاحظ ذلك حتى عند بعض حفّاريها وحرّاسها وزائريها والسكان المقيمين بالقرب منها، في ضاحية "باب الزوّار".

يقول الناشط والإعلامي رياض وطار، الذي كان في زيارة إلى قبر عمّه الروائي الطاهر، إن "الذاكرة المتعلقة بالأشخاص والأماكن في الجزائر باتت محكومة بالقطائع السّلبية"، مستطردًا: "بات الجزائري لا يعرف أصل تسمية الشارع الذي يشهد يومياته الحية، فكيف بالمكان الذي يدفن فيه؟".

وحملت المقبرة اسم امرأة تسمّى العالية حمزة (ولدت في 1886 وتوفيت في 1932) من منطقة سور الغزلان، التي تبعد عن العاصمة بـ132 كيلومتر. ولعلها كانت الجزائرية الوحيدة التي سمحت لها الأعراف الاجتماعية والقوانين الاستعمارية يومها، بأن تشتغل في قطاع الأعمال، فقد كانت تملك محلات وعقارات واسعة في منطقتها ومناطق أخرى كانت حكرًا على المستوطنين الأوروبيين.

مقبرة العالية
العالية بنت حمزة، التي سميت مقبرة الزعماء في الجزائر على اسمها

وعدم إنجاب العالية للأولاد، واقتصار ورثتها على أخ وأخت؛ كانت من الأسباب التي حملتها على مباشرة مشاريع خيرية شملت التكفل بالفقراء واليتامى وإقامة المدارس لتعليمهم، في زمن كان التعليم فيه محظورًا على الجزائريين، إلا في حدود ضيّقة. ومن ذلك إقامة مدرسة لتعليم الفتيات اليتيمات في منطقة سيدي عيسى.

وفي عام 1928، أي قبل أن تموت العالية مسمومة بأربع سنوات، تبرعت بقطعة أرض شرق الجزائر العاصمة بلغت مساحتها 800  ألف متر مربع، لتكون مقبرة للجزائريين، والتي هي مقبرة العالية الآن.             

وتضمّ مساحة المقبرة حوالي ربع مليون قبر، في مربّعات متباينة، تمثل توحيد الموت للأعراق والأديان والطبقات في الجزائر. فبالإضافة إلى "مربّع الشهداء" المخصّص لرؤساء البلاد وشخصياتها السّامية، ويخضع لحراسة دائمة، ليس من باب البروتوكول فقط، بل لحماية قبوره من الأيدي العابثة بعد تسجيل محاولات لنبشها أيضًا؛ نجد مربّعًا خاصًّا بالجنود البريطانيين والأمريكيين، الذين سقطوا في الجزائر خلال الحرب العالمية الثانية عام 1944. 

وهناك أيضًا مربّعٌ مخصّص للمسيحيين، الذين وافتهم المنية خلال الاستعمار الفرنسي. وأضيف مربع جديد للموتى من العمّال الصينيين، الذين دخلوا الجزائر منذ عام 2000 في إطار الشّراكة الاقتصادية.

أما المربّع الأكبر مساحة والأكثر قبورًا، فمخصّص للمواطنين الجزائريين المقيمين في العاصمة وضواحيها، مع بعض الاستثناءات التي تتعلق بمقيمين في مناطق بعيدة، أوصوا بدفنهم في "مقبرة العالية" لرمزيتها، أو حدث أن ماتوا في مستشفى عاصمي، وشقّ على ذويهم نقلهم إلى مسقط الرأس البعيد.

يقول سلميان، وهو أحد العارفين بسجلات المقبرة: "تكاد ألقاب الجزائريين جميعًا تتوفر في العالية، وهي بهذا ليست بقعة لدفن الأموات فقط، بل للذاكرة والعيش المشتركين بين الجزائريين أيضًا".

يقول العم سعدي، الذي جاء لزيارة قبر رفيقه الثوري ورئيس الحركة الجزائرية للتجديد الجزائري، سليمان عميرات، المتوفى بسكتة قلبية أصابته أثناء إلقاء النظرة الأخيرة على رفيقه الرئيس المغتال محمد بوضياف، إن "الموت واحد، لكن المصير في الآخرة ليس واحدًا، لذلك أفضّل أن أدفن في مقبرة مقصودة كثيرًا حتى يصلني ثواب الدّعاء. تصوّرْ أنّ آلاف الأدعية من آلاف الزوّار تغمر روحك يوميًا هنا".

مقبرة العالية
تكاد ألقاب الجزائريين جميعًا تتوفر في مقبرة العالية

ولا يخلو الشارع الجزائري من إشاعة موت الرئيس أو شخصية سامية في الدولة، ينتهي إلى الرأي العام مرضُها. وعادة ما تكون رؤية الناس لعملية دهن "مقبرة العالية" وتهيئة مدخلها، منطلقًا لتلك الإشاعة؛ لأنها عملية لا تحدث إلا في حالة موت شخصية من العيار الثقيل، ما يستدعي حضور أوزان ثقيلة من الداخل والخارج، مثلما حدث في جنازات الرؤساء الخمسة.

يقول حسين من مؤسسة تسيير المقابر والجنائز، إن "كثيرًا من عمليات الدهن السّابقة كانت في السّياق العادي للاعتناء بالمقبرة"، مضيفًا: "لكن مرض الرئيس الحالي وجّهها إلى سياق خاص أوحى برحيله".

تأتي "مقبرة العالية" على رأس المقابر الأكثر شهرة في الجزائر، كونها مدفن الشخصيات الجزائرية الكبرى، حتى تسمى مقبرة الزعماء

وللمقبرة سور مرتفع وأنيق، بأشجار وورود لا تعاني الإهمال، ما جعلها من أكثر مقابر الجزائر أناقة واحترامًا لسكان العالم الآخر. وفي السياق ينقل سائق سيارة أجرة، يدعى خليفة؛ أمنيته بأن تعمّم الظاهرة على المقابر جميعها، فيقول: "يفترض في عالم الأموات ألا نسمح بمقبرة رئاسية تتفوق على الحدائق في جمالها، وأخرى شعبية قد يصل الإهمال فيها إلى درجة أن تصبح مرعى للمواشي".  

 

اقرأ/ي أيضًا:

ميلة الجزائرية..مملكة الجنان والمياه تبحث عن مجدها

العمران الجزائري.. تراث مُضيّع وحداث مستعجلة