08-أكتوبر-2016

تمثال مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة يعاني الإهمال؟(أنديا/Getty)

حين اجتمع الجزائريون يوم 27 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1832، ليبايعوا عبد القادر بن محي الدين، تحت شجرة الدردار في منطقة معسكر، 400 كيلومتر غربًا، أميرًا عليهم وقائدًا لجيشهم ضد فرنسا، التي كان قد مرّ عامان منذ دخولها الجزائر. كانت ملامح الدولة الجزائرية الحديثة قيد التشكّل، بعد أن كانت خاضعة للنفوذ العثماني.

أقدمت السلطات الجزائرية عام 2012 على طلاء تمثال الأمير عبد القادر بلون وبطريقة لا ينسجمان مع طبيعته مما شوهه وأثار استنكارًا واسعًا

عملة وعلم وعاصمة وجيش وقضاء، مؤطرين بمقاومة شعبية أزعجت الفرنسيين، وعطلت تقدّمهم في الفضاء الجزائري، قبل أن يتمكنوا من الأمير وينفوه إلى دمشق عام 1856، ليواصل جهوده الإنسانية والفكرية هناك، إلى أن توفي بها عام 1883، ومن مآثره حمايته للمسيحيين خلال الفتنة الطائفية عام 1860.

اقرأ/ي أيضًا: الجزائر.. في ذكرى أم الثورات

جاور قبرُه قبرَ شيخه المتصوف "ابن عربي"، بناء على وصيته، إلى غاية 1966، حيث أمر الرئيس هواري بومدين بإعادة رفاته من دمشق، ودفنها في "مربع الشهداء" بالجزائر العاصمة، إلى جانب نخبة من شهداء ثورة التحرير والمقاومة الشعبية، الذين أكملوا ما كان قد بدأه في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

في الخامس من شهر تموز/يوليو، عيد الشباب والاستقلال، عام 1982، نُصب تمثال الأمير في شارع العربي بن مهيدي بقلب الجزائر العاصمة، وكان النحات البولوني ماريان كونييتشني، هو من أبدع هذه التحفة، التي تصوّر الأمير راكبًا جوادَه وحاملًا سيفَه باتجاه البحر.

أقدمت السلطات عام 2012 على طلاء التمثال بلون وبطريقة لا ينسجمان مع طبيعته البرونزية، ذلك أنها أوكلت المهمّة لمقاول هاوٍ لا يملك الخلفية الكافية للتعامل مع التماثيل، مما شوّهه وأحدث فيه شرخًا، وهي الحماقة التي أشعلت موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" حينها بالاستنكار، وحرّكت منظمات المجتمع المدني، في مقدّمتها "جمعية الأمير عبد القادر"، للمطالبة برد الاعتبار لمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة.

يقول حمزة. ل، العامل في "متحف الفن المعاصر" المحاذي لساحة التمثال، إن "الإهانة لم تطل تمثال الأمير فقط، بل تعدّت إلى شخصه نفسِه"، مضيفًا: "ما معنى أن ينزعوا صورته من الأوراق النقدية ويعوّضوها بحيوانات؟ وليتها كانت حيواناتٍ ذاتَ وجود في تاريخ الجزائريين. ما معنى أن يبقى قصره في دمشق عرضة للانهيار، من غير أن يحظى بالترميم اللائق، ولا ندري إن تمّ ذلك لحد الساعة أم لا؟ ما معنى أن نسمع أحفادَه وحفيداتِه يناشدون السلطات بأن تمنحهم الجنسية؟ هل هناك من هو أولى بها من أحفاد مؤسس الدولة؟ وما معنى أن يُعطّلوا كلّ فيلم أو مسلسل عنه؟".

يتساءل جزء من الجزائريين عن أسباب نزع صور الأمير عبد القادر، مؤسس الدولة الحديثة، من الأوراق النقدية وتعويضها بصور حيوانات

اقرأ/ي أيضًا: ساقية سيدي يوسف.. تاريخ نضالي آخره مأساة

وقفت أمام التمثال ذات صباح، وتمنّيت أن يخبرني كم شخصًا يتوقف عنده كلّ يوم، وكم صورة تلتقط في جنباته، فمن يفعلون ذلك كثيرون وغير منقطعين. يقول أمين، وهو يخرج من "مكتبة العالم الثالث" المقابلة تمامًا لساحة التمثال، إنه تمنّى من النحات البولوني لو أنه جعل الأمير يحمل كتابًا أيضًا إلى جانب السيف، "حتى تكتمل هوية الرجل، فهو لم يكن محاربًا فقط، بل كان شاعرًا ومفكرًا ومتصوفًا أيضًا". ويضيف: "لكنها النظرة الرسمية المهيمنة، لا تخلّد إلا المقاومة بالسلاح".

صينيون وعرب وأمريكيون وفرنسيون أنفسهم، يقفون أمام التمثال، في انبهار واضح، كما لو كان صاحبه حيًّا، بعضهم يملك معلوماتٍ وافية عنه، من خلال كتب صدرت في الفضاء الغربي، منها "صقر الصحراء" للمستشرق الإنجليزي ويلفرد سكاون بلينت، فيما يستعين البعض بمواقع البحث في هواتفهم النقالة. تقول السائحة الإنجليزية آن: "كثيرون ممّن يحاربون الآخر لأنه آخر، يتركون انطباعًا بأنهم منغلقون، لكن عبد القادر الجزائري أعطى انطباعًا بأن أفقه الإنساني كبير".

في المقابل، يجد كثير من الشباب الجزائريين راحتهم في ساحة التمثال، فهم يتجمّعون فيها ويتبادلون الأحاديث والمشاعر أيضًا، فقد لاحظنا أكثر من ثنائي يلتقطون الصور، ويجلسون على المقاعد المنصوبة هناك، أو على قاعدة التمثال، في مشاهدَ قالت عنها سميرة إنها لا تراها منافية لاحترام شخصية كبيرة مثل شخصية الأمير. "ما أعرفه عن الأمير أنه عاشق كبير، بالمعاني السامية للعشق، ونحن نأتي إلى هنا، لنتبرّك بهذه المعاني".

كلما شربتُ قهوة في مقهى "ميلك بار"، الذي وضعتْ فيه جميلة بوحيرد قنبلة عام 1956، وهو يبعد عن تمثال الأمير عشرة أمتار، كلما راودني هذا السؤال: "ما معنى أن تُحكم البلاد بالشرعية التاريخية، بالموازاة مع إهمال رموز هذا التاريخ؟ فالأمير وقع له ما ذُكر سابقًا، وجميلة بوحيرد تعيش معزولة، تنتظر رحيلها وما بدّلت تبديلًا؟".

اقرأ/ي أيضًا:

الجزائر-فرنسا.. عواطف مفخخة

هل سيكتب تاريخ الجزائر من جديد؟