18-أكتوبر-2015

انتظرونا في ألمانيا! (تانيا تيلاغا/Getty)

أربع سنوات ونصف من عمر الثورة السورية كانت كفيلة بأن تفرز لنا مفهومًا جديدا للنضال، تبناه عدد من المناضلين المرابطين في مقاهي مدينة غازي عنتاب التركية. يبدو أن هؤلاء المناضلين استفزهم مشهد الموت الدامي في شوارع المدن السورية فدفعهم لتكريس "فكرهم التحرري" وتجربتهم "الثورية" لخدمة الشباب الثائرين على الأرض. ففي كل حادثة تمر خلال الثورة لا يبخل هؤلاء المناضلين على الثوار بالعديد من المنشورات الفيسبوكية التي تتضمن تحليلات عسكرية وسياسية ونصائح لوجستية أيضًا. وتكمن المشكلة في اعتقادهم بأن ما يقومون به سيعود بفائدة على الثوار والشعب السوري، متناسين أن من يملك قدرة التغيير الحقيقي هم الأشخاص المتواجدون في الساحات وجبهات القتال وليس مناضلو مواقع التواصل الاجتماعي. وتكتمل حلقات مسلسل النضال والثورية مع اتساع دائرة المصفقين لهم في فيسبوك وتويتر الذين يحولونهم لمناضلين رفيعي المستوى ويتناقلون منشوراتهم وكأنها إرث فكري على كل من يريد أن يصبح مناضلًا الاطلاع عليه. (ذلك لا يلغي طبعًا وجود مناضلين وثوريين حقيقيين وهم كثر).

يمتاز مناضلو المقاهي التركية بحفظهم للشعارات أكثر بكثير من التزامهم بها، ويكررون كالببغاء كلمات حفظوها عن ظهر قلب دون أن يفهموها نتيجة إصابتهم بداء تقمص "الشخصية النضالية".غالبيتهم جاؤوا من مناطق غير ساخنة عسكريًا وثوريًا داخل سورية، وربما كانت حياتهم في السابق فارغة وخالية من الإثارة على أي مستوى مهني أو اجتماعي، لذلك وجدوا في ركوب مطية الثورة فرصة لتغيير واقعهم ومحاولة اكتساب ثقة الآخرين بهم. يمتاز هذا النوع من المناضلين بازدواجية بين ما يظهرونه للناس وفقا لمقتضيات المصلحة والحاجة وبين ما يكتنف فكرهم من مبادئ قد تصل لحد الطائفية المقيتة. فرفع شعار الديمقراطية، وحرية التعبير واحترام حقوق  الإنسان غطاء لممارسة صعودهم نحو غاياتهم الشخصية. فتراهم يتحدثون عن الحرية والمواطنة كنوع من أنواع الترف الفكري الذي يجعلهم محط أنظار الناس واهتمامهم.

اقرأ/ي أيضًا: "تشبيح" المصرف المركزي السوري

هذا كله في كفة والمتاجرة بشعارات الثورة السورية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الشبان، يعمد الكثيرون منهم لاستغلال آلام الناس في المناطق المحررة للحصول على مكاسب مادية. فصورة لأب ينتشل جثة طفله من تحت الركام أو أم تبكي ولدها الذي مزقه برميل متفجر لأشلاء، ما هي إلا وسيلة للحصول على حفنة من الدولارات لقاء بيعها لوكالات الأخبار. أشياء مثل هذه حدثت وتحدث. وربما هذا ما يفسر وحسب العديد من التحقيقات الصحفية المنشورة مؤخرًا وبالإضافة لشهادات حية من ناشطين في الداخل عزوف الأهالي عن الوقوف أمام عدسات المصورين، بل وصل الأمر في كثير من الأحيان لحد اعتداء الناس على كل شخص يحمل كاميرا. لأنهم يرون في أنفسهم مجرد سلعة إعلامية لشخص يريد التكسّب المادي على حساب معاناتهم.

اللحية الطويلة ضرورية والثياب الرثة أيضًا من أجل look نضالي!

حالة تقمص شخصية البطل الثوري هذه دفعت "مناضلي المقاهي" لاتخاذ نمط سلوكي بل وحتى شكلي يتماهى مع "الحالة النضالية" التي يرغبون بمحاكاتها. فهم يتشبهون إلى حدٍ كبير بمظهر المناضل الملتزم اللامبالي بثيابٍ رثة فوضوية ولحية طويلة وشعر طويل عشوائي المظهر. أما حواراتهم مع الأصدقاء فهي سرد لبطولات وأقوال تشي غيفارا وغاندي ومن شابههم من زعماء ومناضلين. ويكثرون من استخدام عبارات مزركشة عديمة النفع مثل : بوهيمي، أممي، ديماغوجي، ليقنعوا الآخرين بمدى ثقافتهم واطلاعهم. كل هذا الترف باسم السوريين.

كما أنهم يتفنّنون في نسج قصص عن مغامراتهم في المظاهرات والعذابات التي عاشوها داخل المعتقلات!! وينسبون الكثير من الحوادث التي حصلت خلال الثورة لأنفسهم، كمثال ذلك تقمص الكثيرين لشخصية الشاب الذي قام برفع علم الثورة على مدخل جامعة حلب في المظاهرة التي حدثت تزامنا مع وصول المراقبين الدوليين في السابع عشر من أيار/مايو 2012. كما أن لديهم الجرأة للترويج عن علاقات شخصية تجمعهم بأغلب رموز المعارضة السلمية في الداخل، فهم أصدقاء الشهيد غياث مطر وشركاء الدكتور المعتقل محمد عرب في التخطيط لتظاهرات حلب، وفي ذكرى كل مجزرة يعربون بمنشور فيسبوكي عن حزنهم لفقدان أصحابهم ممن كانوا في عداد ضحايا تلك المجزرة. بينهم من تظنه أنه يعرف عشرين مليونًا من السوريين.

وبالإضافة لذلك فهم يظهرون تعاطفًا كبيرًا مع كل الحركات والقضايا التحررية على اختلاف تصنيفاتها ليدعموا موقفهم... "الثوري". لكن هذه الديمقراطية تندثر بمجرد اصطدامهم بآراء مخالفة لهم تعرّيهم من عباءة النضال المزعومة، عندها يظهر الوجه العدائي التخويني المختبئ خلف سوار في المعصم لعلم أخضر بثلاث نجوم حمر ولحية ثورية. فهم يضعون أنفسهم في نفس منزلة الوطن بحيث يكون الاختلاف معهم هو اختلاف مع الوطن.

معظم مناضلي المقاهي التركية انتقلوا أخيرًا لمتابعة عملهم النضالي في أوروبا. وربما سيكون للبيرة الألمانية حضور لافت في مسيرة "الكفاح الثوري" ضدّ نظام الأسد القاتل.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة السورية.. عبء التقاليد وأعباء الثورة