25-نوفمبر-2015

بساط الريح في مخطوطة عثمانية (Getty)

يستهل فريد الأطرش أغنيته الشهيرة "بساط الريح" بالمقطع التالي: "بساط الريح، جميل ومريح، وكلو أمان، ولا البولمان". الأغنية التي ألّف كلماتها الشاعر بيرم التونسي، تغازل الأوطان العربية وتتغنى بجمالها وبهائها، فبساط الريح المريح سينقلنا، على ألحان الأطرش، فوق بغداد والشام، وصولًا إلى تونس فمراكش. وبينما نرتوي من دجلة ونهنأ بخيرات النيل، ونتنعم بالنظر لصاحبات الرموش الحسناوات "أنا أعشق سوريا ولبنان.. سوريا ولبنان، نروح يا بساط على بغداد".

بساط الريح رمز يختصر الأسطورة والخيال، حيث يمكّنُ الإنسان من التحليق بين العوالم والأزمنة كما يشاء

يعرف كل من قرأ كتاب ألف ليلة وليلة، وتتبع حكايات شهرزاد، بينما كانت تُهدئ من روع الحاكم الباطش شهريار، أن بساط الريح هو سجادة سحرية كانت تستخدم كوسيلة نقل جوية للأفراد لقدرتها على الطيران، ويبدو أن بساط الريح كان رمزًا يختصر الأسطورة والخيال الذي يمكّنُ الكائن البشري من التحليق بين العوالم والأزمنة، كما يشاء دون إبطاء أو حواجز.

غير أن الكثيرين لا يعلمون أن بساط الريح الذي حمل غضب شهريار بعيدًا خلال الألف ليلة وليلة، والذي أبعد خطر سيف الجلاد مسرور، قد تحوّل بقدرة قادر إلى بساطِ ريحٍ مختلف في بلداننا العربية الحديثة. فبات وسيلة شهيرة لتعذيب السجناء، إذ يربط السجين على قطعة من الخشب، إما مربعة أو لها شكل الجسم البشري، فيبدو السجين وكأنه يطير مفرود اليدين في الوقت الذي تنهال عليه شتى ألوان التعذيب، كما يمكن طي البساط بحيث يلامس رأس السجين قدميه. يعتقد البعض أن هذه البدعة قد استخلصت من طريقة الصلب التي تعود جذورها لما قبل الميلاد.

وهكذا ومع كل رحلة طيران في عاصمة عربية، سيشاهد المعتقل في سفرته على بساط الريح مختلف روائع الرفسات واللكمات والطعنات، وقد ينعم بشيْ لحمِهِ أو نتف شعره الذي يضايقه بسبب الريح العاصفة التي ما إن تهب حتى يخفق قلب السجين في سجنه وقلب ذويه في بيوتهم، ولن يفيد الصراخ على علي بابا، أو الاستغاثة بعلاء الدين في تلك الرحلة التي لا تحتاج إلى أذونات سفر، ولا لأختام دوائر هجرة أو جوازات.

وللسجين أن يهنأ بالسلامة إن خرج من تلك الرحلة سالمًا، وله أن يقص على أهله مغامراته حين جعل الجلاد من جلده طبلة كما وعد لدى استقباله، وحين جعل "الذباب الأزرق" لا يعرف له طريقًا إليه كما توعده في بداية المشوار الرائع. وللأهل أن يحمدوا الله على تلك النعمة والرحلة التي نَعِم بها ولدهم، فولد جيرانهم اختار له القدر وسيلة تنقل أخرى أقل أريحية بكثير، فغاب عنه الحظ، فمنذ أن تم استقباله في المعتقل العربي المريح، بات "الدولاب" وسيلته للتنقل عبر الحكايا والقصص، فرأى النجوم في عز الظهر يومًا، ورأى الشمس تغرب من المشرق يومًا آخر. 

استخلصت طريقة التعذيب على بساط الريح من فكرة الصلب التي تعود جذورها إلى ما قبل الميلاد

وبينما كان السجان يدخل رأسه ويديه وصدره في دولاب السيارة ويربط أطرافه بحبل متين، كان السجين يتذكر أغنية "مشوار رايحين مشوار"، التي جمعت المطربة اللبنانية رونزا والمغني وليد جلال في دويتو ممتاز، فأرادا أن "يبرما" العالم كله في نهار واحد. غير أن حظ ابن الجيران كان في حصوله على شراكة و"دويتو" تعيس مع سجان لا يعرف من الموسيقى إلا إيقاع اللبطات المنتظم ورتم الجلدات الرتيب. 

يبدو أننا الآن بحاجة ماسة لكي ندعو الرسام الروسي فيكتور ميخايلوفيتش فاسنيتسوف، صاحب اللوحة الشهيرة "بساط الريح" -الذي رسم البساط بجمال نادر بينما كان يمتطيه الأمير حاملًا فانوسًا مضيئًا في مساء سماء ملونة، بينما تطير تحته بعض الطيور بحرية- أن يزورنا ببساط ريح قاطعًا حوالي مائتي سنة للأمام، علّه يرى أحدث وسائل التنقل العصرية التي سبقت كل وسائل العصور القديمة همجيةً وبدائيةً، وليحذر في مشواره المحفوف بالمخاطر بعض البراميل الطائرة التي قد تمر بجانب سجادته، حاملةً بعض الـ"تي إن تي" أو الديناميت أو ما شابه، ولينتبه من فوق إلى "بيك آبات" التويوتا التي تحمل الكثير من المقاتلين العابرين للأوطان والأزمان، وألا يعتقد أنهم عمالقة، أو أقزام السندباد البحري، وليتذكر إن انتابه اليأس مقولة ضحى، زوجة السندباد، حين هوت من بساط الريح ولم تستطع التشبث به فقالت: لن أحلم بعد الآن ببساط الريح.. الأرض أجمل، الأرض أمنا الرؤوم.

اقرأ/ي أيضًا:

الإصغاء إلى لغة الحجارة

سيدة المقالات