30-يوليو-2020

جمال عبد الناصر يوم تأميم قناة السويس 1956 (Getty)

بعد أن استعرضت شاشة التلفزيون العربي أولى حلقات سلسلتها، مذكرات، المعنية في هذا الموسم بدواخل تنظيم الضباط الأحرار العسكري السري في مصر الجمهورية، وقوفًا عند المكانة التاريخية التي يشغلها حدث/ظاهرة بهذه المركزية في مصر والمنطقة العربية. قدمت شاشة العربي جولتها الثانية من الرصد الدوكودرامي لسيرة ومسيرة تنظيم الضباط الأحرار بعيون مذكرات قياداته وأعمدته المؤسسة إلى جانب الآراء المختصة التي حضرت في الحلقة الأولى وقدمت ذاتها إلى الثانية رفقة حضور إضافي للباحث خالد زيادة.  

من أجل تجربة نقدية حقيقية بخصوص تجربة تنظيم الضباط الأحرار فالأجدى تناول الواقع بتاريخيته. أي واقع الوقت الذي عايشته التجربة لا القياس على معطيات اليوم والأوضاع القائمة فيه

استأنفت هذه الجولة ما شرعت به سابقتها من رصد للشبكة العلائقية بالغة التعقيد التي رسمت الأداء الداخلي والمغالبات التي عرفها التنظيم. لكن هذه الحلقة تصدت بشكل أساسي إلى ملفات أكثر تعددًا وتنوعًا من سابقتها. إذ استهلت الحلقة بإذاعة أرشيف خبر رحيل جمال عبد الناصر، لتنتقل إلى تناول مقتضب حول تولي محمد أنور السادات مقاليد السلطة، في التنظيم  وفي البلاد التي أحكم سيطرته عليها. واصفة نهج السادات بأنه انقلاب على نهج عبد الناصر، وهو أمر تؤكده سياسات السادات التي يصعب رسم صلة ما بينها وبين تلك التي لعبد الناصر، سواء في الملف الاجتماعي الاقتصادي المصري، أو في السياق العربي وعلى رأسه الصراع مع الصهيونية في فلسطين.  

اقرأ/ي أيضًا: مذكرات "الضباط الأحرار" على التلفزيون العربي.. إنصاف علني لسيرة التنظيم السري

لم يتمهل الشريط طويلًا قبل العودة إلى عوالم المذكرات وشهادات شخصيات التنظيم البارزة بخصوص المجريات أثناء حياة عبد الناصر. هذه المرة توقف الشريط لدى مذكرات الضابط السابق في سلاح الجو الملكي عبد اللطيف البغدادي، وصاحب الوزارات الـ5 المتتالية بعد إطاحة التنظيم بالحكم الملكي، لينتهي المطاف بالبغدادي إلى الاستقالة على خلفية الخلافات مع عبد الناصر، كما تبين مذكراته.

تلتقط السلسلة ضمن شريطها مقابلة أرشيفية للبغدادي أثناء حديثه عن صراع عبد الناصر ومحمد نجيب. فيما اعتبر الراوي أن مذكرات البغدادي من أكثر أوراق التنظيم إشكالية، خاصة فيما يتعلق بهزيمة حزيران. وهو ما دفع بأنور السادات، في حقبته، إلى التدخل والتحكم بسيرة التنظيم وما ينشر عنها نظرًا لطبيعة المكاشفات التي قدمتها مذكرات البغدادي، كما أراد السادات أن يكون السرد المعتمد لسيرة التنظيم وتجربته نحو السلطة وفيها بما لا يعرض مستقبله السياسي لأدنى مخاطرة.

حضرت أولى الشخصيات المستضافة في هذه الحلقة، لتؤكد على أهمية مذكرات عبد اللطيف البغدادي في الكشف عن الخلاف مع عبد الناصر. إذ اعتبر الباحث صقر أبو فخر أن البغدادي مثل الجناح اليميني في التنظيم، وأن قضايا خلافه، وفق مذكراته، تعلقت بالتأميم وحل الإخوان المسلمين وغيرها من الملفات. وهو ما يمكن اعتباره في محل الخلافات الأساسية، بل والشاسعة بين البغدادي وعبد الناصر الذي وضع التأميم والإصلاح والزراعي على رأس أولويات ملفاته الداخلية، إلى جانب الجيش.

تطرقت هذه الحلقة إلى علاقة تنظيم الضباط الأحرار، ومعه عبد الناصر بشكل رئيسي، بمسألة الديمقراطية وشكل ممارسة السلطة. فتدرجت في عرض عناصر هذه المسألة المركبة، سواء فيما بتعلق بعلاقات التنظيم الداخلية، أو علاقته بالجيش والدولة والمجتمع. لتلك الغاية توقف الشريط مع العام 1954 مطولًا نظرًا لمركزية هذا العام في التحولات داخل التنظيم كما تظهره أحداث هذا العام، وتبرره الحلقة في مشاهد تالية.

حضر اسم جمال سالم ضمن هذه الحلقة خلال استكمالها للحديث بخصوص الديمقراطية، وهو ما أعاد الحديث إلى حلبة الضابط اليساري خالد محيي الدين، كما لمذكراته. التي توضح نقده، أي محيي الدين، لعبد اللطيف البغدادي في عدم التزامه أو ايمانه بالديمقراطية لكن انتقاده المستمر لقيادة التنظيم على خلفية قضايا الديمقراطية. لم تتم الاستفاضة كثيرًا بخصوص سالم، مع أنه صاحب دور هام في دعم عبد الناصر على حساب محمد نجيب.

الراحل عبد الناصر مع جنود من القوات المسلحة المصرية مطلع 1967 (Getty)

عن العام الفارق في عمر التنظيم 1954 استمرت الحلقة لتستعرض حادثة المنشية، محاولة اغتيال عبد الناصر، التي كانت نقطة تحول لصالح رصيده الشعبي، ونقطة انطلاق جديدة في مواجهته المفتوحة مع الخصوم السياسيين ومنهم الإخوان المسلمين. هنا ظهر الوجه الجديد  ضمن شريط الحلقة الثانية من السلسلة، وهو الباحث خالد زيادة، الذي أوضح ما سبق الحديث بشأنه بكلماته، وأكد على أن الضباط الأحرار بعد أن سيطروا على الأمور وأسسوا لتنظيمهم أرضية واضحة وثابتة لم يتأخروا في التعامل مع خصومة الإخوان المسلمين لتنظيمهم. ليعود سرد راوي الشريط إلى عبد الناصر مجددًا، الذي وصفه بأنه اتقن لعبة السلطة والتمسك بها. وهو رأي ينطوي على قدر من المعقولية أمام متابعة تجربة وأداء الرجل في السلطة.

تتزاحم السنوات المؤسسة  والفارقة في تجربة التنظيم وعبد الناصر معًا، لينتقل الشريط إلى عام 1956، حينما وقع العدوان الثلاثي على مصر. ووفق مذكرات البغدادي، حققت تلك الحرب نصرًا سياسيًا كبيرًا لنظام عبد الناصر، وكان عام التحول نحو السياق العربي الأوسع. أي بكلمات مختصرة، مشروع عبد الناصر في تصدير الوحدة العربية والثورة الاشتراكية في عموم المنطقة العربية. كل هذا في الوقت الذي كان يطبق فيه الإصلاح الزراعي، رفقة فتح الوظائف العمومية بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر.

اعتبر البغدادي في مذكراته أن الوحدة الجمهورية مع سوريا انطوت على عديد من الأخطاء، خاصة العسكرية والمتعلقة بالجيش فيها. فيما يتعلق بأن مصر مارست دور اليد العليا فيها مثلًا، ولم يكن للشعب أي كلمة في الموضوع. هذا حتى وقوع الانفصال الذي لم ير فيه عبد الناصر إلا حالة فشل لما اعتبره تصرف نابع من الضمير. لتعود مذكرات البغدادي وتؤكد على إحدى أبرز استراتيجيات عبد الناصر، التي مفادها أن الجيش هو عنصر أساسي في مشروع التغيير برمته. هنا يمكن القول بخصوص ما قدمه البغدادي، واقتبسته سلسلة "مذكرات: الضباط الأحرار" أن موضوع الوحدة مع سوريا ونظرة عبد الناصر للجيش وموقعه، من بين أدق ما تناوله البغدادي في مذكراته.  فيما رجحت هذه الحلقة أن مذكرات البغدادي قد تكون أكثر جرأة من غيرها، لكن هذا في جزء منه قد يعود إلى طبيعة العلاقة والخصومة بين صاحب المذكرات وعبد الناصر.

لم تهمل هذه الحلقة حضور الباحث المختص بموضوعها جمال الجمل، الذي تناول حالة النكوص الاجتماعي التي مست مصر في أعقاب هزيمة حزيران 1967. معتبرًا أن من المنطقي الذهاب تجاه إعادة بناء الجيش والدولة عقب حدث من هذا النوع. مستشهدًا بانتكاسة صلاح جاهين، إذ يرى الجمل أن الشعور العام والوعي الجمعي لم تكتب لهما النجاة آنذاك. فيما بدا جليًا في مذكرات البغدادي الحديث عن هاجس عبد الناصر من انقلاب في الجيش، وحول اختياره لعبد الحكيم عامر من باب تأمين الجيش من مثل هذا الانقلاب وليس من باب الكفاءة العسكرية والقيادية بالضرورة. وهو ما اختتمت الحلقة آخر مشاهدها به، كما اختتم البغدادي فصول مذكراته عند هزيمة حزيران 1967.

بينما لم تغب مذكرات محمد نجيب نفسه، علق بخصوصها الباحث محمد عفان، الذي اعتبر أن نجيب كان دائمًا يشعر بالعزلة وسط التنظيم وأنه أميل إلى نمط الحكم المدني، لم يتوسع حضور عفان إلى مواضيع أخرى كثيرة في هذه الحلقة.  لكن ربما بالعودة لما قد تم طرحه في أولى حلقات السلسلة يوم 23 تموز/يوليو الجاري، على لسان الضيف نفسه الباحث محمد عفان، بشأن تشكيكه بموضوعية ودقة المنهجية القائمة على اعتماد سير أعضاء التنظيم وأوراقه الداخلية كمرجعية دراسية لحالته، يبدو أن إجابة واضحة ومعلنة تم استقاءها هنا.

هذه الإجابة لم تحضر فقط عبر مسار الجولة الأولى وما أظهرته من دقة تقدمها مذكرات الراحل  خالد محيي الدين، التي أثنى عليها الباحث صقر أبو فخر أيضًا بما تحايثه في حركة الواقع المعني بالأحداث موضوع الرصد. إنما اتضح في هذه الجولة مدى الفائدة التي يقدمها طرح قراءة متجددة في السير والأوراق المعنية ومقارنتها أمام بعضها بشكل كاشف لا يهمل السياقات الأوسع التي أنتجت ضمنها، كما تبيان قراءاتها واختلافاتها لذات الأحداث. وهو ما يتلاقى في إمبريقيته مع المثال التجريدي الذي ضربه صادق جلال العظم مرة في كتابة ذائع الصيت، نقد الفكر الديني، بخصوص حقيقة منبع النيل. إذ يصرح العظم بقوة القدرة على التشكيك في طبيعة منبع نهر النيل وحقيقته لو توارد عدد من البعثات بشهادات مناقضة لما قدمته نتائج بعثة دافيد ليفينغستون وريتشارد بورتون بخصوص بحيرة فكتوريا، وأن تكون البعثات اللاحقة أيضَا متناقضة فيما بينها. لكن ما حصل هو أقرب للمراكمة والتثنية على نتائج بعثة ليفينغستون، وهو ما يمكن سحب تمثيله التجريدي على المراكمة التي أبدتها مذكرات البغدادي في جزء منها على ما طرحته مذكرات خالد محيي الدين في الحلقة السابقة. بكلام آخر، لا يحتوي نص بعينه على الحقائق المطلقة والكاملة، لكن شهادات متعددة غير متناقضة لأشخاص عايشوا حدثًا ما يكون لها من الوجاهة ما يضعها موضع الاستدلال بها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سينما مصر.. سينما يوليو: سيرة البدايات

الجيش والسياسة – إشكاليات نظرية ونماذج عربية.. كتاب جديد لعزمي بشارة