03-نوفمبر-2015

محمود دسوقي (فيسبوك)

مدخنون شرهون يعانون من الوحدة في العقد الرابع من عمرهم، والشبق المعصوم عن الإشباع. شخصيات تتمحور حولها قصص من داخل غرفة زرقاء لمحمود دسوقي، المدخن الثلاثيني الذي صدر مطلع هذا العام كتابه الأول عن دار الكُتب خان بالقاهرة.

الخبرة في العمل ككاتب سيناريو أثّرت بشكل كبير على كتابة محمود دسوقي الأدبية

المجموعة على صغر حجمها (اثنتان وستون صفحة) تحوي خلاصة تجربة محمود دسوقي السردية، في كتاب هو باكورة نشره الأدبي، بعد مشاركته مع عدد من الكتاب في "صفحة جديدة"، الصادر عن "دار أزمنة"، بالتعاون مع "مؤسسة المورد الثقافي" كنتاج لورشة اللقاء الأدبي للشباب العربي الذي عقد في الأردن عام 2009. استغرق دسوقي في إنجاز نصوص "من داخل غرفة زرقاء" التسعة قرابة سبع سنوات، فدسوقي قاص مُقل متفرغ بشكل كامل للعمل في الكتابة التلفزيونية -الترفيهية بالأساس- من بينها مسلسلات حققت انتشارًا على مستوى المشاهدة: "أبواب الخوف" من إخراج أحمد خالد، رفيقه وشريكه الفني الذي صمم له غلاف الكتاب بسمتريات لحيوانات ملتصقة سياميًا وعاجزة عن الإفلات من صورها، بشكل يعكس روح العمل وشخوصه البائسة. 

هذه الخبرة في العمل ككاتب سيناريو أثرت بشكل كبير على كتابة دسوقي الأدبية. بحيث استطاع التحرر من الدراما وميل الشخصيات إلى تحقيق تغييرات جذرية في مصائرها، مفرّغًا شحنته من "الحبكة" في نصوص مسلسلاته. ليرصد هنا شخوصًا مهزوزة ومضطربة في دوائر مفرغة، عاجزة عن الانتقال من خانة الأزمة إلى عتبة الهروب من الديستوبيا التي آلت إليها المدينة. أضف إلى ذلك، قدرته كسيناريست على خلق شخصيات واقعية تمامًا يسهل العثور عليها ما أن تنتهي من إغلاق الكتاب، في مواقف كتبت حواراتها العامية بشكل متقن ومماثل للغة الشارع.

تتنوع اللغة لدى دسوقي حسب الحاجة. بقدرة عالية على القفز من البلاغة الفصيحة في الوصف إلى الصياغة العامية في الحوار. ففي الوقت الذي ينزلق فيه النص إلى الحوارات المعاصرة لا يتوانى دسوقي في "البار" عن الحديث عن أنواع المشروبات والمأكولات وشرح مكوناتها مفسرًا ألفاظها الأجنبية في متن النص دون التذييل في الهامش، ساخرًا من هيبة الكتاب المنشور للدرجة التي دفعته إلى تسمية الكتاب بعنوان لا وجود له في الفهرس حتى ولو على شكل جملة عرضية في أي نص داخلي، لكن هذا لا يمنعه من أن يغالي في التحرر من الحكائية في "عشاء متأخر" بحيث يكتب بلغة متمكنة وخيال جامح عن رجل يحلم بكائنات فنتازية تمامًا حتى يغرق في الماء ويتحول تدريجيًا إلى ثمرة شمام في حقل!

في "ميريت أصفر" أول قصص المجموعة، يعصف الاضطراب والضبابية بالشاب الثلاثيني بشكل لا يقدر فيه على تذكر صديق طفولته الذي يمر من أمامه يوميًا في كشك السجائر وهو عائد من العمل، ويصيبه الشك حول عمره الحقيقي عندما يشعر بآلام في ركبته، وينسى تمامًا أنه يشرب لونًا آخر من السجائر غير التي طلبها. قصة تعكس هشاشة الحياة البشرية وذاكرتها في المسافة التي يقطع فيها رجل عرض الشارع لشراء علبة سجائر.

تتكرر أعراض ألزهايمر المبكر هذه في "تكّتيّ كالون" حين يجد البطل نفسه عاجزًا عن تذكر أي باب من أبواب طابق البناية هو الذي يفضي إلى شقته، ويغرق في خيالات مشوهة بالرموز الفرويدية عندما يلج مفتاحه في القفل. هذه الصورة التي تتكرر في قصة "البار". عندما يعترف الزبون البائس بقتل زوجته وغرسه سكينًا في فرجها الذي أتاحته لرجل آخر، في حوار يواجه فيه البارمان بهواجس مماثلة تعصف بذهنه، هي لعبة حوارية يتموه فيها السرد حتى لا يصبح لدى القارئ يقين حول أي من الشخصيتين قام بقتل زوجته. 

"كنتُ قد بدأت أشعر بالملل فأنا لا أحب ذلك النوع من العاهرات. هي تريد اهتمامي. تريد أن أقول لها يا جميلة وأنا أقبلها في يدها، وأنا لا أستطيع سوى أن أهبها قروشًا قليلة وبعض الحليب فوق فخذيها، ورن المحمول مرة أخرى. إنها زوجتي" هذه الحالة من الشبقية المشوبة بالتردد الخجل لم تقتصر على قصة "ملل الرغبة"، وتكررت في قصص "سلمى في مدينة الزجاج" و"وحدة".

في الأخيرة. يفضح دسوقي الأوساط الثقافية المتخمة بأنصاف المبدعين. خصوصًا الكتاب الذين يملؤون المقاهي متشدقين بنصوصهم الركيكة، في مفارقة تجعل سمير "ينظم الشعر ويلعن الحظ" لعمله نادلًا في مقهى يعج بشخصيات من أمثال الأستاذ الذي "يكتب ليصطاد النساء. حقيقة يعلمها سمير جيدًا. حقيقة تهون عليه إحساسه الدائم بالفشل". ورغم تبادل الأحوال بين الكاتب معدوم الموهبة والشاعر المغمور الذي يعمل نادلًا، إلا أن كليهما ينتهي إلى نفس المصير الذي تعيش فيه شخصيات "من داخل غرفة زرقاء": بائسون وفاشلون في تبديد الوحدة والوقوع في الحب، أو حتى الاستمتاع بالجنس. 

تنتهي شخصيات "داخل غرفة زرقاء"إلى المصير ذاته؛ الفشل واليأس

هذا البؤس لا يقتصر على البشر وحدهم بل ويتعداهم إلى الحيوانات أيضًا، فبعيدًا عن "بط عميّ البلدي.. الذي يحضره من القرية" في قصة "سلمى"، أو الحلم الذي يغرق فيه البطل ليجد نفسه سابحًا مع أسماك الرنجة التي تناولها في "عشاء متأخر". يعكس محمود دسوقي ولعًا بالكائنات البرية يتحول إلى هاجس في "الخرتيت الأسود". عندما يحكي عن الشاب الذي لا يجد من مُضيفه تعاطفًا أو تفهمًا لقلقه المزمن حول مصير الكوكب والدمار الذي يلحقه ببيئته تطور البشرية وانتشارها. بعد قراءته لخبر انقراض وحيد القرن الأسود في غرب أفريقيا. فيما يواصل الجالسون لعبهم لكرة القدم في لعبة فيديو مملة بلا مبالاة وسخرية من هواجس الشاب الذي يخرج لتدخين سجارة في الشرفة ليجد جثة الخرتيت الأسود الأخير تنزف في الشارع، فيكتفي برمي سجارته نحوها بيأس. 

هذا الاشمئزاز من وحشية الحضارة التي تفترس حتى أرواح البشر الهائمين في مدنها يتجلى في "سلمى في مدينة الزجاج". حين يستلهم دسوقي تجربته في العمل بدولة الإمارات كاتبًا عن المدينة البائسة - كما يصفها - متخيلًا ديناصورًا يحطم ناطحات السحاب والمولات الكبيرة في دبي: "الرطوبة الخانقة في الصيف لم يصلحها هواء التكييف. العبودية تمس قلوب فليبينيات ينثرن التحيات من حولك جود مورنينج، جود إيفينينج مام، والكاري والتوابل الهندية تسيطر على أحياء الفقراء"، مواصلًا توريط شخصياته في المزيد من المتع المحرمة والإحباطات.  

تستهل مرفت عمارة إحدى المقالات التي قامت بترجمتها مؤخرًا في صحيفة "أخبار الأدب" بالقول: "ترتبط سمات الكتابة لدى "الكتاب" ارتباطًا وثيقًا بحياتهم الخاصة، ويمكن للقارئ منها استنتاج السمات الشخصية للكاتب حتى لو حاول إخفاءها"، إلا أن محمود دسوقي لا يحاول إخفاء شيء، فهو وباستخدامه لضمير المتكلم في نصوصه -باستثناء ثلاثة منها- معبرًا عن هواجسه الشخصية وأفكاره بوضوح عبر أبطاله الواقعين في ظروف حياتية مشابهة للطبقة الاجتماعية والمدينة التي يعيش فيها، يشكل نموذجًا ليس للكاتب الذي يعبر عن جيله ومجتمعه بل عن ذاته، بلا مواربة أو تجميل، وهو وإن كان بذلك يتورط في مساحة ضيقة مرهونة بالتجربة الشخصية ومهددة بالتكرار واستهلاك ثيمات مطروقة مسبقًا، إلا أنه يختصر الطريق على القارئ ليعبر بشكل صادق ومعبر عن واقع بائس، يحتكم في التعبير عنه لنصيحة هيمنغواي الأثيرة : "اكتب ما تعرف". 

اقرأ/ي أيضًا

هاني الراهب.. الكاتب المهزوم

كلنا نصدقك يا يانكوفيتش