12-يوليو-2015

لعل المشهد الروائي المصري الآن، هو الأكثر ثراء، قياساً إلى بقية المجالات الأدبية الأخرى، وربما يكون هذا الثراء هو السبب في صعوبة حصره في اتجاهات كتابية محددة. الروائي محمد ربيع واحد من أبرز روائيي جيل الشباب، صدرت له رواية "كوكب عنبر" في 2010، (حصلت على جائزة ساويرس لأفضل عمل روائي في 2011)، و"عام التنين" في 2012، وأخيرا "عُطارد" في 2014، وهو من بين قلة من الروائيين الذين يهتمون بتشريح المجتمع المصري في أعمالهم.  

هناك دعوات من بعض الكُتَّاب الآن تنادي بإبعاد الأدب عن السياسة، بدعوى العدمية أحياناً أو أن الأدب تفسده السياسة غالباً؟

العلاقة بين الأدب والسياسة تختلف من شخص لآخر بالتأكيد، وابتعاد الكتاب عمداً عن السياسة غير مفهوم بالنسبة لي. هل يعتقدون أن هذا ما يجعل كتاباتهم خالدة؟ أم أن هذا ما يجعلها بعيدة عن الانتقاد؟ في كل الأحوال، كانت الأعمال المرتبطة بالسياسة مشهورة وحية دائماً. قد يبتعد الكاتب عن الأحداث الحالية لأنه غير مهتم، أو لأن لا رأي له في ما يحدث الآن، لكن أن يمنع نفسه من الكتابة عما يحدث فهذا أمر غريب.

توظّف اللغة في رواياتك بشكل جيد، فما رأيك في فكرة أن كثيراً الروائيين الشباب الآن لا يهتمون بفكرة اللغة، إلى حد أن بعضهم يرى أن اللغة قالب يجب أن نثور عليه؟

على العكس، أرى أن الكثيرين يهتمون باللغة، أكثر مما أفعل، وربما أوضح مثالين يوسف رخا ونائل الطوخي. هما يحاولان دائماً المزج بين الفصحى والعامية، وأرى أنهما تجاوزا تماماً الجدل الدائر منذ عقود حول استخدام العامية في الكتابة.

على الجانب الآخر هناك الكثيرون، من الجيل الأصغر، يملؤون كتبهم بلغة مدرسية محافظة جداً، وينفرون تماماً من استخدام العامية. ولا أعلم لم هذه الردة غير المتوقَّعة!

اللغة كائن حي، دائم التغير ولن يستقر على حال أبداً، والناس هم من يساهمون في هذا التغير سواء بكلامهم أو بكتاباتهم. وقد تسمع عن الكاتب الذي يريد الثورة على اللغة، لكن ساعتها ماذا سيفعل؟ هل سيشير صامتاً بدلاً من الكتابة؟

اللغة كائن حي، دائم التغير ولن يستقر على حال أبداً

الدعوة إلى كتابة الأدب بالعامية المصرية بدلاً من الفصحى ليست جديدة، لكنها عادت بشكل أكبر بعد انتفاضة يناير، وخصوصاً مع ما يُعرف بصراع "الهوية المصرية" كيف تنظر إلى هذه الفكرة؟

استخدام العامية يزداد الآن في العالم العربي كله، وعلى الأخص تراها حاضرة في حوارات شخصيات العمل الفني، وبالتأكيد استخدام العامية له أسباب وجيهة، في مصر مثلاً، حينما تكون العامية طاغية تماماً، تصبح الفصحى قاصرة وعاجزة عن نقل الكلام اليومي المعتاد. خصوصاً إذا كان المتحدِّث (حسب شخصيته في العمل الفني) بسيطاً أو غير متعلِّم. يؤرِّقني هذا السؤال كثيراً، كيف يمكنني أن أكتب أفكار واحد غير متعلم بالفصحى؟ ويستسلم الكثيرون اليوم لهذا السؤال فيكتبون الحوارات بالعامية.

أما الإصرار على استخدام العامية كجزء من التحزب للهوية المصرية، فهذا أمر كنت أظن أننا تجاوزناه منذ مدة، ولا أتوقع أن أحدهم يفكر بهذه الطريقة الآن.

ما رأيك في أن كثيراً من الكُتَّاب الشباب يهتمون بقراءة الأدب فقط، الشعراء يقرؤون الشعر والروائيون الرواية.. وهكذا، مع إهمال قراءة فروع أخرى من المعرفة، ربما لا تقل أهمية عن الأدب، وهل يؤثر ذلك الإهمال على إبداعهم؟

لا أعرف من أين أتت هذه الفكرة، هذا قصور كبير في نظرة الكاتب للأمور، على الكاتب أن يقرأ كل شيء، حتى كتب الطهي وكتالوجات الأجهزة الالكترونية! وبلا شك التاريخ والفلسفة وربما عليه أن يقرأ العلوم أيضاً. ولا أفهم كيف يمكن لأحدهم أن يكتب رواية دون قراءة عدَّة مراجع.

قراءة النوع الأدبي الذي أكتبه مهمة أيضاً، فهذا يعرِّفني بالمستوى العام لما يُكتب اليوم، أو ما كُتب في عصر سابق، وبالأساليب المستخدمة في الكتاب اليوم، وعلاقتها بما كُتب قديماً.

قرأت أنك أنجزت روايتك الأولى "كوكب عنبر"، في ورشة "الرواية الأولى"، فما رأيك الآن في فكرة الورش الإبداعية؟

الورشة هي مدخل الموهوبين للكتابة، هناك رهبة تمنع الكثيرين من خوض التجربة، وربما كانت الورشة سبباً في كسر هذه الرهبة، لكنها بالتأكيد لن تخلق كاتباً متميزاً وحدها. وما زلت أنصح كل من يرغب في الكتابة في خوض تجربة مشابهة.

كيف تنظر إلى سياسة المؤسسة الثقافية الرسمية في مصر، وما ظهر في العقدين الأخيرين باسم "الثقافة المستقلة"؟

السياسة الرسمية لا تهتم إلا بفرض المزيد من السيطرة على المتعاملين معها، سواء من الجمهور أو من الكتَّاب أو من المثقفين. ويظهر ذلك بوضوح في ما نسمعه من أن الكاتب الفلاني سُمح له بنشر كتاب كي يتوقف عن انتقاد الوزارة، أو أن صحفياً عيِّن في منصب كبير كي "يبرر" ما يحدث في الوزارة من فساد، أو أن المسؤول الفلاني قام بتعديلات إدارية تبدو وكأنها مفيدة، لكن غرضها الأساسي توجيه الأفكار والآراء إلى اتجاه معين. وكل هذا يتماشى كثيراً مع اسم الوزارة القديم: وزارة الثقافة والإرشاد القومي.

أما في ما يخص الثقافة المستقلة أو الخاصة، فهي تواجه اليوم صعوبات عديدة، ربما أهمها نقص التمويل، وهو ما تتميز به الأنشطة الثقافية الحكومية عنها، تمويل الدولة لوزارة الثقافة هو ما يجعلها مستمرة ودائمة.

الآن تُعاد كتابة تاريخ يناير بأقلام الإعلاميين الموالين للدولة، بموافقتها وتشجيعها.

في روايتك "عطارد"، استخدمت ما يمكن تسميته بـ"الفانتازيا السياسية" بشكل كابوسي، حدثنا عن هواجس مستقبل انتفاضة يناير التي وظفتها في الرواية في ظل انتصار الثورة المضادة؟

ما حدث في يناير انتهى، وخلق ضرراً هائلاً في وعي الشعب المصري، وبشكل ما، صار كل من يحاول مقاومة الحاكم وحده دون إذن من "الدولة" خائناً وعميلاً. الآن تُعاد كتابة تاريخ يناير بأقلام الإعلاميين الموالين للدولة، بموافقتها وتشجيعها. وخلال سنوات طويلة ستصبح يناير شغباً أو خيانة أو مؤامرة، وستجد أن الحدث الواحد يُحكى بعدة طرق وروايات متضاربة، وهو ما سيؤدي بالمستمع إلى تكذيب كل ما يسمع. وستبقى حيثيات الأحكام القضائية الصادرة بعد يناير هي الحكاية الرسمية الصلبة الوحيدة لما حدث. ولك أن تقرأ بعضها حتى تدرك فداحة ما وصلنا إليه. ففي النهاية مبارك لم يقترف أي جرم، والضباط لم يقتلوا أحدًا، والمخطئ الوحيد هو من نزل الشارع وطالب بحقه.

ويبدو أن لعبة الكراسي الموسيقية انتهت، في يومنا هذا قد ترى أن ما حدث في 30 يونيو ثورة حقيقية، فهي هدمت النظام السابق عليها، وحظيت بتأييد من الشعب، ويمثلها الآن بطل قومي يلتف حوله الناس، وهي أيضاً ثورة مستمرة، تفرم كل المعارضين علناً أو في الخفاء. وربما قريباً ستفرم المؤيدين أيضاً. وأنا عندي تحفظ على تعبير "ثورة مضادة"، ما حدث في يناير لم يكن ثورة أصلاً، بل كان انتفاضة كما ذكرت أنت، أو ربما مظاهرة كبيرة انتهت بتنحي مبارك، لا بخلعه. على هذا فلا يمكن أن نعد يونيو "ثورة مضادة".

على كل حال، هذا لم يكن رأيي منذ شهور قليلة، ولا بد أننا جميعاً ننظر خلفنا إلى الهزائم الكثيرة، وندرك أن الناس أيدت المنتصر لا صاحب الحق، وأنها لا ترى أي غضاضة في انتزاع النصر بأحط السبل، وأنها لن ترحم المهزوم أبدًا، لعل كل هذا يكون سندًا لنا في هزيمتنا.

من المعروف أن نظام السيسي في أيامه الأولى، كان يصدر نفسه باعتباره نظاماً علمانياً في مواجهة خطر الإسلام السياسي، كما صرح بذلك الببلاوي، (أول رئيس وزراء بعد الإطاحة بالإخوان المسلمين) أكثر من مرة، فما رأيك في تعامل نفس النظام بعد ذلك مع تجربة "الحزب العلماني المصري"، وهل ترى أن هذا الحزب قادر على بلورة فكر جديد، له مد شعبي لمواجهة المد الإسلامي؟

الحزب العلماني المصري، عش نمل جديد يُبنى تدريجياً لجمع الملحدين والعلمانيين، بالطبع الربط بين الإلحاد والعلمانية غير صحيح، لكن أليست هذه نظرة الأمن والدولة نفسها للحزب؟ بعد الإعلان عن بدء جمع التوكيلات اللازمة للتأسيس تمت مهاجمة الحزب بضراوة، من قبل إعلاميين مؤيدين للدولة وللنظام، كان هذا بمثارة "قرصة أذن" وتعجَّبت كثيراً عندما استمر جمع التوكيلات. بالطبع كل الأوراق ستكون في حوزة الدولة حين اكتمال عددها، وأظن أن العدد المطلوب خمسة آلاف توكيل، سيسلمها وكلاء المؤسسون أنفسهم، وبهذا ستتكون بذرة قاعدة بيانات الملحدين (هم كذلك في نظر الدولة). لا أستطيع تخيل الضرر الهائل الذي سيحدث لمؤسسي الحزب.

علينا أن نفهم أن تأثير المثقفين محدود ولا يتعدَّى المقاهي

وجدنا أن كثيراً ممن يحسبون على يمكن تسميته بـ"التيار المدني" في مصر، بعدما طالبوا كثيراً بدولة مدنية، كانوا من أشد المؤيدين للدولة العسكرية في مصر، بدعوى أن اللحظة تحتاج ذلك، فكيف ترى مبرراتهم لذلك؟

هذا التناقض لن ينتهي أبداً، وحتى اليوم إذا سألت واحداً من "قدامى" المثقفين ستجده متمسٍّكاً برأيه. نعم، المثقفون تنازلوا تماماً عن الدولة المدنية الآن، خوفًا من الدولة الدينية، هم وافقوا على إسقاط الدولة الدينية (أو ما كانت ستصبح كذلك) لأنهم علموا أنهم لن يستطيعوا مواجهتها، ولأن التشريعات الدينية ستجبرهم على فعل ما لا يريدون، أو لأنها ستمنعهم من القيام بأفعال أخرى، وبالطبع لأن الدولة الدينية تمنع التعددية، وهي سلطوية بطبعها، وكل هذا مفهوم تماماً. أما موقفهم المتفائل الباسم الهادئ مما يحدث الآن غير مفهوم بالنسبة لي. هم يدركون تماماً أن الدولة الدينية لا تزال حاضرة بشكل ما، ويدركون أن الرئيس الحالي رجل متدين، وعندما طالب بتطوير الخطاب الديني فرحوا كثيراً، واستدرك الرئيس فأعلن أن تلك مهمة الأزهر. وعلى الرغم من كل تلك الإحباطات المتوالية لا أسمع منهم إلا الصمت، أو الانتقاد السطحي الذي لا قيمة له. لكن علينا أيضاً أن نفهم أن تأثير المثقفين محدود ولا يتعدَّى المقاهي، فلا تأثير لهم على الشارع أثناء الانتخابات (بعضهم يطالب بإلغائها اليوم!) ولا تأثير لهم على الناس بشكل عام. وكثيراً ما أفكر في ما خسره المثقفون سابقاً، فلا أجد شيئاً، وأبحث عما كسبوه اليوم فلا أجد شيئاً كذلك!