15-يناير-2024
كاريكاتير لـ عماد حجاج/ الأردن

كاريكاتير لـ عماد حجاج/ الأردن

في السابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 1971، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يدين نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ويدعو إلى فرض عقوبات عليه.

خضع هذا القرار للتصويت من قبل الدول الأعضاء في الجمعية العامة. وعلى الرغم من أن العديد من الدول صوتت لصالحه، إلا أن بعضها صوت ضده، أو امتنع عن التصويت.

كانت "إسرائيل" من بين الدول التي امتنعت عن التصويت. وبينما بدا موقفها الداعم لسياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا محل استغراب لدى البلد المعني، فإنه لم يكن مستغربًا لدى الآخرين، إذ إن "إسرائيل" قائمة بحد ذاتها على أسس عنصرية تعتمد إقصاء الآخرين.

بقي هذا الموقف في الذاكرة ليكون أحد أسباب تكوّن تيار داعم لحركات الشعوب المطالبة بالحرية والاستقلال في جنوب إفريقيا. وتبلور هذا الدعم في مواقف عدة، آخرها الدعوى التي أقامتها جنوب إفريقيا في "محكمة العدل الدولية" لمقاضاة "إسرائيل" بتهمة الإبادة للجماعة.

كان نيلسون مانديلا يشير بانتظام إلى مأساة الفلسطينيين ومن أقواله: "لكننا نعلم جيدًا أن حريتنا غير كاملة بدون حرية الفلسطينيين"

 

لجنوب إفريقيا تاريخ طويل مع الفلسطينيين الذين لطالما دعمت قضيتهم، كما ظل "حزب المؤتمر الوطني الأفريقي"، الذي قاده نيلسون مانديلا من حركة تحرير مكافحة الفصل العنصري إلى حزب سياسي في الحكومة، ملتزمًا بموقفه القوي لصالح الشعب الفلسطيني، حتى بعد وفاة مانديلا في عام 2013.

كان نيلسون مانديلا يشير بانتظام إلى مأساة الفلسطينيين. فبعد ثلاث سنوات من إلغاء نظام الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا، وبعد انتخاب مانديلا رئيسًا في انتخابات تاريخية شاركت فيها جميع الطبقات العرقية في عام 1994، شكر المجتمع الدولي على دعمه، وأضاف: "لكننا نعلم جيدًا أن حريتنا غير كاملة بدون حرية الفلسطينيين".

في 29 كانون الأول/ديسمبر 2023، رفعت جنوب إفريقيا دعوى قضائية ضد "إسرائيل" أمام "محكمة العدل الدولية"، متهمة إياها بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة. وجاءت أولى جلسات المحكمة عشية دخول الحرب يومها الـ100، ومع اقتراب عدد الجرحى والشهداء الفلسطينيين من 100 ألف بين رجل وامرأة وطفل وشيخ. 

طالبت جنوب إفريقيا المحكمة بإصدار قرار يُرغم "إسرائيل" على وقف الحرب فورًا لحين صدور قرار نهائي من المحكمة. ومن المهم جدًا الإشارة إلى أن هذه الدعوى تستند قانونيًا إلى اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تعرّف الإبادة بأنها: أي فعل تم بقصد التدمير كليًا أو جزئيًا، لمجموعة قومية أو عرقية أو دينية كجماعة.


جدير بالذكر أن "محكمة العدل الدولية" سبق وأصدرت عدة قرارات في قضايا متعلقة بالإبادة الجماعية. وفي عام 1995، أوضحت المحكمة رأيها بشأن مسؤولية الدولة عن ارتكاب أعمال فردية، محددة بذلك المعايير التي يجب توافرها للبرهان على القيام باقتراف جرائم الإبادة الجماعية.

ولكن هل ستكون قرارات المحكمة عادلة ومنصفة؟ فمن المعروف أن المحكمة قد أصدرت حكمًا في قضية البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، مفاده أن صربيا لا تتحمل المسؤولية عن الإبادة الجماعية التي تورطت فيها في البوسنة والهرسك، خلال الحرب الأهلية التي اندلعت هناك.

ومن المهم الإشارة أيضًا للفرق بين "محكمة العدل الدولية" وبين "المحكمة الجنائية الدولية". فالأولى تعتبر من الأجهزة التابعة للأمم المتحدة، وهي الجهاز القضائي للمنظمة، وتختص في النظر بالنزاعات التي تحدث بين الدول، ويتم اللجوء إليها بتوقيع اتفاقية بين طرفي النزاع، وقراراتها نافذة. وفي حال عدم تنفيذها من أحد الأطراف، بالإمكان اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لتنفيذ الحكم، كما أنها تتمتع باختصاص استشاري يتعلق بتفسير الاتفاقيات والأحكام.

أما "المحكمة الجنائية الدولية" فتختص بالنظر في القضايا الجنائية التي ترفع إليها، والتي تتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، غير أن قراراتها لا تُلزم إلا الدول الموقعة على الاتفاقية، أو تلك التي انضمت إلى هذه الاتفاقية لاحقًا، وهنا نشير إلى أن دول مثل "إسرائيل" قد رفضت الانضمام، وبالتالي فهي غير ملزمة بالوقوف أمامها.

وذلك يعني أنها متحللة تمامًا من تنفيذ أي حكم يبرم في حقها، إلا لو شاء مجلس الأمن إلزامها، وهذا ما يستبعده أي عقل في ظل وجود إرادة دول عظمى تتحكم بـ"الفيتو" وتحابي الكيان العنصري، فالولايات المتحدة استخدمت حق الفيتو عشرات المرات لصالح "إسرائيل" خلال السنوات الماضية.

كان آخر فيتو أمريكي ضد القضية الفلسطينية، عمومًا، في 18 كانون الأول/ديسمبر 2017، حيث استُخدم ضد مشروع قرار مصري يرفض إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، وقد حاز المشروع المصري على تأييد 14 دولة من أصل 15 في مجلس الأمن الدولي.

وبغية توسيع البانوراما لنظرتنا للأمور، نلفت الانتباه إلى أن هنالك فرقًا آخر بين "محكمة العدل الدولية" و"محكمة العدل الأوروبية"، كي لا يتم الخلط بينهما، ففرق كبير بين القرارات الاستشارية لمحكمة العدل الدولية وبين وقرارات محكمة العدل الاوربية التي تفتقد لسلطة الإلزام من جهة، وبين قرارات المحكمة الجنائية الدولية التي تنتهي باستخدام مجلس الأمن لسلطاته المختلفة لتنزيل حكم المحكمة الجنائية الدولية كما أسلفنا.

إن قرارات "محكمة العدل الأوروبية" تكون قرارات استشارية حصرًا عندما يكون أحد الأطراف غير أوروبي. وتصبح ملزمة في حال كان الطرفان المتنازعان أوروبيان.

بالعودة للدعوى التي تقيمها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، نجد أنها تستند لعدة براهين وأدلة منها:
الدمار الشديد والواسع للبنية التحتية المدنية في غزة، بما في ذلك المشافي والمساجد والبيوت الآمنة والوحدات السكنية ومصادر الطاقة، وكذلك استخدام إسرائيل للأسلحة المحرمة دوليًا، كالأسلحة العنقودية. ناهيك أيضًا عن  عدد الشهداء الفلسطينيين المرتفع، حيث تجاوز 23 ألف شهيد حتى أوائل كانون الثاني/يناير 2024.


من جهتها، تنفي "إسرائيل" ارتكابها لتلك الجرائم، وتدعي بأن حملتها العسكرية الهمجية مجرد دفاع عن النفس، بعد أن ارتكبت "حماس" جريمة بحق الشعب الإسرائيلي، راح ضحيتها حوالي 1200 مدني، حسب زعمها. 

مع أن الأدلة قوية جدًا ضد "إسرائيل" في محكمة العدل، لكن هذا لا يعني ضمان إصدار حكم الإدانة، لأن الأمور معقدة جدًا، لا سيما في ظل وجود اختلافات معايير وكيل بموازين مختلفة

ومع أن الأدلة قوية جدًا ضد "إسرائيل"، لكن هذا لا يعني ضمان إصدار حكم الإدانة لأن الأمور معقدة جدًا في سياق إثبات وقوع الإبادات الجماعية، في ظل وجود اختلافات معايير وكيل بموازين مختلفة.

لكننا نأمل بأن يكون القرار عادلًا ومنصفًا للشعب الفلسطيني، خاصة أن لهذه المحاكمة بُعدًا رمزيًّا كبيرًا وتاريخيًا، لما تحمله من أمل في ظل انتكاس القانون الدولي وتردي مواقف الدول الكبرى، وتحيزها المطلق لجانب القوة الغاشمة دون التفات لإحقاق العدالة.

ونأمل أيضًا أن تنجو المحاكمة من فرض الضغوطات السياسية عليها، كي لا تسير في اتجاه أعمى تسوقها رغبات الدول العظمى المنحازة للموقف الإسرائيلي سلفًا، والداعمة له لوجستيًا وعسكريًا ومعنويًا.

ربما لن يكون القرار الإداني محرجًا لـ"إسرائيل" ماديًا أو عسكريًا، لكنه مهم جدًا لما سيخلفه من أثر أخلاقي في ظل بروز دور عالمي واسع للشعوب في مختلف دول العالم، التي تتظاهر يوميًا ضد الصهيونية والكيان في سياق حالة غضب عالمي غير مسبوق، زعزع روايات هذا الكيان حول نفسه كدولة تتمتع بالديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الفضفاضة.

وسوف يعري حتمًا الكيان الذي قبل بالمثول أمام المحكمة ظنًا منه بأن ذلك سيضعه في مكان البريء والخاضع لمبادئ العدالة والقانون الدولي والقابل لها، في حين أنه يعرف تمامًا أن العاقبة حتى لو لم تكن لصالحه من حيث الحكم، فلن تكون ملزمة.

وبغض النظر عن النتيجة التي ستصل إليها المحكمة في قرارها النهائي، فإن اضطرار "إسرائيل" للمثول أمامها من أجل الدفاع عن نفسها، خصوصًا أمام تهمة بوزن الإبادة الجماعية، هو حدث استثنائي على كل المستويات.

كما أن المرافعات الدقيقة والأداء المحترف، ضمن رؤية أخلاقية تنطلق من العدالة، للفريق القانوني لجنوب إفريقيا، استطاع أن يجعل من الحدث منصةً قانونية دولية لضحايا غزة، وللقضية الفلسطينية على نحو عام، حيث قُدمت سردية لثلاثة شهور من القصف والتهجير والتجويع، وإضاءات هامة على مسار 75 عامًا عاشها الشعب الفلسطيني في القهر وتحت الاحتلال، وفي ظل الاضطهاد والفصل العنصري.