14-يوليو-2016

عبد العزيز بركة ساكن (1963)

يعود الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن (1963) إلى العوالم المنسية في السودان، بعد أن خرج -نسبيًا- في آخر رواياته "الرجل الخراب"، إلى عالم المهاجرين صوب أوروبا، وما يصيبهم من تسلخات نفسية جراء اختلاف الثقافات. لكنه في هذه المرة، يدخل إلى أحياء الفقراء في العاصمة الخرطوم، وعوالم التنقيب الأهلي عن الذهب في الصحراء الشمالية، والأساطير التي تحيط بها.

القول إن نهب ثروة التاريخ النوبي المستبعد لصالح المشروع العربي الإسلامي في السودان، هو مصدر اللعنة التي تحيق بواقعنا الكارثي اليوم

ففي روايته الجديدة "مانفستو الديك النوبي" (مسكيلياني للنشر، تونس 2016)؛ يمزج بركة، البؤس والغرائبية والفساد، لتنكشف التحولات الخشنة التي تضرب المجتمعات السودانية بسبب الفقر والحروب.

اقرأ/ي أيضًا: هل كان أجدادك بدائيين أم بدئيين؟

يجعل الفقر كثيرًا من القيم والقواعد قابلة للاختراق، طالما أنها موروثة من أزمان تختلف فيها قوانين الحياة، عما يواجهه السودانيون الريفيون ممن نزحوا إلى تخوم الخرطوم، بحثًا عن فُتات من التعليم والعلاج لا يجدون ريحه في فيافيهم البعيدة، الموبوءة بالنزاعات القبلية، والحروب بين الحاكمين في العاصمة والمتمردين عليهم في أقاليم البلاد الأخرى. فعند أول هزة، تتهاوى مقولات "الأخلاق السودانية" التي تحكم العلاقات بين المتساكنين، لتحل محلها انتهازية يغذيها انسداد الأمل في مستقبل أفضل، فيصبح كل سعيٍ مشروعًا، طالمًا أنه مَخرج من حياة الأكواخ إلى نعيم الأحياء الراقية المترفة.

اختار فتح الله فرّاج، الخروج من فقره الموروث، بأي ثمن، قامعًا صوت ضميره بكل ما طالته يداه من مبررات. فبعد عودتهما من معسكرات التنقيب الأهلي عن الذهب؛ مات جبريل كيري، صديق فتح الله ورفيقه؛ مسمومًا جراء ابتلاع خاتمين ذهبيين عثر عليهما داخل أحد القبور النوبية الأثرية، وقرر الاحتفاظ بهما، بدلًا من تسليمهما إلى "الجلَّابي" المنقِّب الذي وظفهما، بمقابل لا يوازي المخاطرة التي يجتازانها في سبيل العثور على عروق التبر، أو الآثار الذهبية المدفونة هناك لآلاف السنين، والمحروسة بالجن والتعويذات السحرية.

رافق الخاتمان ظهور ديك غريب في منزل جبريل، في يوم موته ذاته، يبيض بيضات حجرية، اكتشف فتح الله أن تحت قشرتها بيض من الذهب، ما حمله على التحايل بشتى الطرق للحصول عليها، مبرمًا اتفاقًا غامضًا مع الديك-الشيطان، حارس الذهب في القبور النوبية، بأن يكون له الثراء، لكنه، أي الديك، سيستولي على روحه في الدنيا وبعد الموت.

في "مانفستو الديك النوبي" يواصل بركة ساكن محاولات التجريب التي بدأها في أعمال سابقة

متجاهلًا وخزات ضميره، وأن أبناء صديقه الفقراء أحق بهذا المال؛ صعد فتح الله سريعًا إلى مصاف الأثرياء، دافعًا ثمن صعوده هذا صحة عقله. بينما أخذت أسرته، وهي ترسِّخ أقدامها في مجتمع النخبة الجديد، تكتشف أن القيم الأخلاقية التي ينتجها الفقر، هي نفسها التي ينتجها الثراء، لا فرق. فعدم الالتزام بالمحرمات الدينية والاجتماعية هو نفسه، وإن اختلفت الدوافع.

اقرأ/ي أيضًا: غسّان كنفاني.. العودة إلى الدرس الأول

يواصل بركة، في هذا العمل أيضًا، محاولات التجريب التي بدأها في أعمال سابقة، فنجد في "مانفستو الديك النوبي" صوت الراوي يعلو أحيانًا حتى يخفي كل صوت عداه، بينما يخفت في أماكن أخرى حتى لا يُرى. أيضًا أفسح الكاتب عدة صفحات سرد فيها أسماء لشخصيات سودانية معروفة من مختلف الأجيال، في اصطفاف ربما يريد أن يشير به إلى كثرة المقاومين لمشروع الإخوان المسلمين في السودان، وفقًا للسياق الذي جاءت فيه هذه الأسماء، حيث اصطف الجميع قبالة مشهد "الكَشَّة" حين صادرت السلطات أدوات الرزق البائسة لفقراء يعيشون على هامش المدينة.

أيضًا، ختم بركة الرواية بفصل يتداخل فيه الراوي وشخصية بركة ساكن، لينتهي ببداية الرواية من جديد. حيث امتزجت حياة أدومة/ بركة/ الراوي؛ بأحداث الرواية، عبر 336 صفحة، قبل أن يفصل الكاتب هذا المزيج في النهاية، لمرّة تكفي لانتباه القارئ فقط، قبل أن يبدأ المزج من جديد. 

ثمة إشارة خافتة حملتها رواية "مانفستو الديك النوبي"، نلاحظها في الربط بين الماضي النوبي للسودان، والحاضر الذي انتشرت فيه لعنة الذهب، والقفز فوق الحقب الوسيطة بين الزمنين. وكأن عبد العزيز بركة، يرغب في القول إن نهب ثروة التاريخ النوبي المستبعد لصالح المشروع العربي الإسلامي في السودان، هو مصدر اللعنة التي تحيق بواقعنا الكارثي اليوم.
 
اقرأ/ي أيضًا:

وصفة سحرية للكتابة!!

أشهر 6 كتب في التراث الجنسي عند العرب