23-فبراير-2023
غرافيتي في جنديرس

غرافيتي في جنديرس

أَلِفَت العين السورية مشهد الركام بعدما صارت البلاد أكوامًا فوق أكوام، من الحجارة والمشاعر. وعلى مثال حجارة المنازل، المنهارة أو المتصدعة الموشكة على الانهيار، تحوّل السوريون إلى ركام مماثل لركامهم. وبدلًا من الاكتفاء بالانهيار الأول بات كلُّ تصدّع من التصدعات موشكًا على صنع انهياره الخاص.

ومع أن ركام هذه الجولة لم يكن من صنع نظام الأسد أو أحد حلفائه، إلا أنّ الكثير مما يجعله يبدو توقيعًا بيد الموت نفسه على جبين هذا البلد التعيس. فبوصولها إلى الكارثة الطبيعية، بلغت سوريا حدًّا قياسيًّا من عبثيّة الموت، الذي راح يتنقّل بها بين الحرب والوباء والكارثة. أما الحديث عن النجاة والناجين فتجلٍّ آخر للعبثية، عبثية اللغة هذه المرة، إلى جانب العبثية السياسية والدينية والطبيعية.

من الحرب إلى الوباء فالكارثة، تسير مواكب الحزن السوري مالئةً الأرجاء بالعويل، ولم يبق أحد من أهل هذه البلاد إلا وينضم مرغمًا على المشاركة في هذا المراسم

نحن الذين شهدنا فصول هذا العقد الدامي وأحصينا الممكن من جنازاته، وحاولنا تخيل الكمية الهائلة من الجنازات المفقودة لموتى في أقبية السجون وقيعان البحار وتحت الأنقاض؛ نضيف هذا الزلزال إلى كروبنا النفسية السابقة، مدركين أن الكارثة تحتاج إلى أن تحدث أمامنا مرةً واحدةً لتظلَّ تحدث في دواخلنا كلَّ يوم، وإلى الأبد.

خلق الزلزال ما يكفي ليشعر السوريون أنهم شعب واحد للمرة الأولى بعد زمن طويل، لكنّ تلك الوحدة تجلّت في منحى عجيب بين من سرقوا المساعدات الإنسانية على الجانبين، المعارض والمؤيد، إذ مثّلوا وجهًا سوريًّا صريحًا، أكثر ممن جمعوها وأرسلوها، ربما لأنّ التضامن ظلّ في حدود المناسبة ولم يستطع التحوّل إلى حركة اجتماعية بسبب اليأس والشتات، بينما ظهرت اللصوصية بكامل عافيتها.

حُرِمنا مرة أخرى من إنصاف ضحايانا، عبر إخراجهم من تحت الركام وتحديد هوياتهم وإحصائهم. ومثلما يحدث دومًا لم نحصل على ذلك الرقم الذي يمكن اعتباره حقيقيًّا، أو قريبًا من الحقيقة. وبهذا لم يعد الاعتراض الأخلاقيّ الكلاسيكيّ على تحويل الموتى إلى مجرد أرقام واردًا في سوريا، فكثير منهم الآن مدفونون تحت حجارة منازلهم، ولا يوجد من يمِنُّ عليهم برقم.

توحش الموت في هذه البلاد حتى صار بلا أرقام.

زاد الزلزال من يأسنا. نسمع أهلنا وجيراننا يهذون علانيةً: أيحبّ الموت سوريا إلى هذا الحد؟ لماذا لا يقضي عليها وعلينا ويُريحنا؟ هل الأسد على حقٍّ ونحن على ضلال؟ أيحب الله الأسد أكثر منا؟

من الحرب إلى الوباء فالكارثة، تسير مواكب الحزن السوري مالئةً الأرجاء بالعويل، ولم يبق أحد من أهل هذه البلاد إلا وينضم مرغمًا على المشاركة في هذا المراسم. ومن الحرب إلى الوباء فالكارثة تدور الدائرة مُلحقةً بنا خسارات هائلة في كل هذه التنقلات، وثمة من لهم في كل جولة، أو مرحلة، حصةٌ من الخسارة.

بتنا نعرف من الموتى أكثر مما نعرف من الأحياء. علاقة أصواتنا مع الغناء تقتصر على الندب. عيوننا تهمل المشاهد من حولها كي ترى الأشباح. مواعيد زياراتنا للمقابر تنافس أوقات إقامتنا في المنازل. فماذا بوسع الأحياء أن يفعلوا وهم يحملون كل هذا الموت؟