كتب جوناثان فرانزن في أحد مقالاته: "تنتمي الرواية إلى عصر الصحافة وستذهب بذهابها أو أسرع".

كثر هم الذين يشاطرون الروائي الأمريكي نبوءته، ويبدون قلقًا من احتمال فقدان الرواية لموقعها الراهن في حياتنا الثقافية، معددين الإشارات الدالة على أن حضارتنا في طريقها إلى مغادرة أرض الخيال الأدبي، ليس الرواية وحدها، بل وكل أشكال الأدب التقليدية التي "استُنزفت واستُهلكت وذبلت".

يقول جوناثان غوتشل في كتابه "الحيوان الحكاء" إن الرواية "جنس يافع ومع ذلك فإن النقاد كتبوا نعيها وأعادوا كتابته على مدى قرون"

يقول جوناثان غوتشل في كتابه "الحيوان الحكاء" إن الرواية "جنس يافع ومع ذلك فإن النقاد كتبوا نعيها وأعادوا كتابته على مدى قرون". ويقدم غوتشل عددًا من الإشارات المعاكسة، إذ تُنشر عشرات الآلاف من الروايات حول العالم كل سنة، وبأرقام إجمالية لا تنقص بل ترتفع، وفي الولايات المتحدة وحدها تُنشر رواية جديدة كل ساعة، ويباع بعض هذه الروايات بشكل هائل..

اقرأ/ي أيضًا: أثر الناقد.. نموذج تودوروف

ويتساءل غوتشل: "متى أبهجت الروايات كلًّا من الناشئة والبالغين أكثر من سلسلة الشفق لستيفاني مايرز، أو كتب هاري بوتر لجي كي رولينغ؟ متى كانت آخر مرّة أحدثت فيها الروايات أية هزة ثقافية أكبر من سلسلة ما بعد نهاية العالم المتروك لتيم لاهاي وجيري جنكنز، التي بيِع منها 65 مليون نسخة؟ متى باع المؤلفون كتبًا أكثر لجمهور أكثر إخلاصًا مما فعل جون غريشام وتوم كلانسي ونورا روبرتس وستيفن كنغ وستيغ لارسون؟".

ولكن إذا افترضنا أن الرواية تعيش خريفها بالفعل، وأن أشكال الأدب التقليدية قد استُهلكت وذبلت حقًا. فلم علينا أن نقلق؟ ما الذي تقدمه لنا الرواية وما الذي يستطيعه الأدب حيالنا؟

يقول ماريو فارغاس يوسا إن مجتمعًا بلا أدب هو مجتمع همجي الروح، إذ لطالما كان الأدب واحدًا من القواسم المشتركة للتجربة الإنسانية، ومن خلاله يتعرّف البشر على أنفسهم وعلى الآخرين، بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، خطط حياتهم، أماكنهم الجغرافية والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية.

ويرى يوسا أن لا شيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصّب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائمًا في الأدب العظيم: إن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو ما يزرع التفرقة والخوف والاستغلال.. "لا يوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أن نرى، برغم فروقنا العرقية والاجتماعية، ثراء الجنس البشري... قراءة الأدب الجيد هي مصدر للمتعة بطبيعة الحال، ولكنها أيضًا تجربة لنعرف من نحن وكيف نكون".

يوسا: "قراءة الأدب الجيد هي مصدر للمتعة بطبيعة الحال، ولكنها أيضًا تجربة لنعرف من نحن وكيف نكون"

في كتابه "الأدب في خطر"، يروي تزفيتان تودوروف تجربة جون ستيوارت مل مع الأدب. لقد أصيب الفيلسوف الشهير بانهيار عصبي وهو في العشرين من عمره، وفقدت كل الأشياء في حياته طعمها وأهميتها، فصار "فاقد الحس بكل لذة كما بكل إحساس ممتع". كل أنواع العلاج التي جربها كانت بلا جدوى، فاستقر اكتئابه دون أمل بالشفاء. استمرت هذه المأساة عامين، ثم وفجأة حدثت المعجزة "يلعب كتاب قد قرأه مل مصادفة في تلك اللحظة دورًا فريدًا في شفائه: إنه ديوان شعر لوردسورث". انتشلته كلمات الشاعر من هوة يأسه السحيقة، وأيقظت قلبه مجددًا. لقد أعادته إلى الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: طارق علي: عزل الأدب عن السياسة ضرب من الوهم

يورد تودوروف واقعة أخرى لا تقل إثارة: أثناء الحرب العالمية الثانية، وجدت امرأة شابة نفسها حبيسة السجن في باريس. لقد تآمرت على المحتل الألماني، وقبض عليها. شارلوت دلبو وحيدة في زنزانتها، تخضع لنظام "الليل والضباب"، لذلك لا حق لها في الكتب. لكن رفيقتها في الطابق الأسفل تستطيع استعارة مؤلفات من المكتبة. فتضفر دلبو ضفيرة من خيوط استلتها من غطائها وتتناول كتاباً من النافذة. كتاب تلو كتاب.. فإذا بالمرأة السجينة تعثر على خيط الحياة وتتشبث به، وتطير إلى عالم آخر لم تعد فيه وحيدة، وحتى بعد انتقالها إلى معسكر الموت "أوشفيتز" فإن الشخصيات الروائية لم تكف عن زيارتها وتشجيعها. بعد سنوات تعود إلى فرنسا، لتكتشف أن شخوص الروايات يمكن أن يكونوا رفاقًا موثوقين، فتكتب: "مخلوقات الشاعر هي أكثر حقيقة من مخلوقات اللحم والدم لأنها غير قابلة للنفاد. لذلك هم أصدقائي، أولئك الذين بفضلهم نرتبط بالبشر الآخرين، في سلسلة الكائنات وفي سلسلة التاريخ".

 

اقرأ/ي أيضًا:

يوسا.. هل السياسة أقرب إليه من الفن؟

عبد الفتاح كيليطو في "الأدب والغرابة".. سندباد أدبي