18-ديسمبر-2023
فتاة فلسطينية تنظر إلى الدمار الذي خلّفه القصف الإسرائيلي

ما يحدث الآن في غزة لا يتصوّره خيال (Getty)

لطالما أثارت عواطفنا ومخيلاتنا تلك الأفكار الاستثنائية التي يضعها أمامنا كتّاب السيناريو الجيّدون من خلال الأفلام التي تترك عادةً بصمات لا تُمحى في قلوب كل مشاهديها. ولكل بصمة شكلها بحسب طبيعة الشخص الذي يشاهد الفيلم وخصائصه الفكرية والنفسية. ولكي أوضح فكرتي أستعين بفيلم "Cast Away" من بطولة الممثل العالمي توم هانكس وإخراج روبرت زيمكيز.

الفيلم الذي يمكن ترجمة عنوانه إلى "المنبوذ"، يحاكي قصة حياة روبنسون كروزو اليوركي، الفلاح، ومغامراته المدهشة. والقصة بدورها ليست خيالية بل مقتبسة، كما يظن البعض، من حادثة حقيقية وقعت لبحّار اسمه "ألكسندر سيلكيرك"، الذي تحطّم قاربه بالقرب من سواحل تشيلي عند جزيرة جوان فرديناندز، وبقي هناك أربع سنوات وأربعة أشهر قبل أن يتم إنقاذه بالصدفة بعد اكتشافه من قِبل سفينة إنكليزية.

تُقدَّم لنا التجارب الجمعية التي نراها ونشاهدها بقوالب لا تمكننا من محاكاة التجربة في خيالاتنا

في الفيلم المذكور، يضع كل مشاهد نفسه في مواجهة الكارثة نفسها، ويفترض احتمال وقوعها له: تحطم طائرة ثم النجاة وحيدًا، والوصول إلى ضفة جزيرة معزولة غير مأهولة بالبشر!

الكارثة، بما تحمله من رعب، تحدث لشخص آخر. لكننا نتمثل مشاعر ذلك الشخص ونمتحنها لأن فرص وقوع ذلك الحدث لنا فرصٌ لا يمكن استبعادها نهائيًا. وهذا الالتقاء العاطفي الأساسي هو ما يشد، من وجهة نظري، المشاهد لأفلام من هذه النوعية.

ورغم تخيله، المشاهِد، للنهاية السعيدة وتوقعه بأن الحكاية ستنتهي بفرحة ما، إلا أن الحكاية حاولت تجاوز ذلك قليلًا وانحرفت عنه بواقعية، حيث خسر الناجي زوجته السابقة التي اتضح أنها ارتبطت بطبيب وأنجبت منه، وبذلك استمر وقع الألم في نفوس المشاهدين. الزوجة ليست مذنبة، والناجي ليس مذنبًا، والأمر كله مجرد ضربة حظ قدرية سيئة وقعت على رأسيهما.

وبما أننا كبشر كائنات اجتماعية، كما قال أرسطو في كتابه "عن السياسة" قبل أكثر من ألفي عام، تغدو تجربة الوحدة من التجارب المثيرة للخيال، سيما أنها تجربة تحاكي بالنسبة لنا تجربة ما بعد الموت. فالميت سيخوض تجربته بفردانية شديدة، ولا يعلم إنسان حتى الآن إن كان الموتى يستطيعون التواصل مع بعضهم أو مع الأحياء، أو أن الأمر انتهى بموتهم نحو الفناء والعدم.

حسنًا، أمام التجارب شديدة الفردانية، كتجربة عامل الفيديكس الناجي واتخاذه من كرة مطاطية صديقًا ومناجيًا خلال فترة إقامته على تلك الجزيرة المنعزلة، يضع كل مشاهد السيناريو العاطفي الخاص به والتصور الوجداني المرافق للأحداث بما يتوافق وقلقه الوجودي.

ولنتذكر فيلم كريستوفر نولان الشهير "Interstellar"، بطولة النجم ماثيو ماكونهي الذي يغادر كوكب الأرض بغية إنقاذه تاركًا خلفه ابنته ميرفي ذات العشر سنوات، لتستغرق رحلته في الفضاء أعوامًا كثيرة تكبر فيها ابنته وتشيخ، ثم يتمكن من الوصول لمحطة ناسا الفضائية ويلتقي هناك بميرفي العجوز، التي قادت الهجرة البشرية إلى خارج الأرض.

تترك الحكاية أيضًا أثرها الراسخ في النفوس عاطفيًا، مسبّبة قلقًا وهلعًا وجوديًا، والسبب برأيي هو خضوع الخيال لمحاكاة التجربة لدى المشاهدة، لأن الأحداث تقع لشخص بعينه.

أوردت كل ما سبق لأصل لفكرتي التي قد لا يوافقني البعض بشأنها، وهي أن التجارب الجمعية التي نراها ونشاهدها تُقدَّم لنا بقوالب لا تمكننا من محاكاة التجربة في خيالاتنا.

ما حدث في سوريا من قتل وتعسف من قِبل النظام السوري، وما يحدث في غزة الآن بكل انفتاحاته على ما لا يتصوره خيال من رعب وإرهاب، لا يحرك لدى اختصاره بكلمات كالحرب أو الإبادة الكثير من المشاعر الكامنة، ولا يغدو مؤثرًا بالشكل الكافي والمستدام في نفوس من يعتبر نفسه ناجيًا ومشاهدًا وشاهدًا لدى تقديم المشهد كمصيبة يتوازعها حشد كبير من الناس في بقعة جغرافية ما، ويتفاعل مع تلك الأخبار العامة الملايين.

لذلك، تصبح جمل بعينها ولدت من الكارثة علامات مؤثرة في الوجدان الفردي العالمي. ولنذكّر البعض بتلك الجمل التي مرّت على أسماعنا خلال الكارثة المستمرة حتى الآن في غزة:

"ما تعيطش يا زلمة، كلنا شهداء"

‎"هاي روح الروح"

‎"هاي أمي بعرفها من شعرها"

‎"تعالولي في المنام والله بشتقلكم"

‎"بدي أمي تكون عايشة"

‎"اسمه يوسف ٧ سنين شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"

‎"الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا"

‎"بينتقموا منا بالولاد؟ معلش"

‎"أمانة حد شاف إمي؟ "

‎"يابا، مش كنت بدك تطلع صحفي؟"

‎"شو بدي احكي لإمي يا الله!"

‎" مين ظل عايش؟"

‎" أمانة ترجعي يمّا"

‎" بدي ماما، وين ماما"

‎"بدي شعرة منه"

‎"يا عالم جيبولي بنتي"

‎"فدا القدس فدا القدس "

‎"خليه في حضني خليه في حضني"

‎"رايح ادفن ابوي بسيارتي"

‎"ياريتني ظليت معك"

‎"لمين بدي احكي ماما؟"

‎"قولي إنك عايشة يما"

‎"كنت ناوي أعملها عيد ميلاد"

‎"بدي أروح معها، بدي ادفنها بإيدي"

‎"أمانة يابا تصحى، أمانة تحكيلي إنك بتضحك علي"

‎"كان عايش والله"

‎" بدي العب بدي العب بس"

‎" عصفور بالجنة يما"

‎"أولادي ثلاثة يا عالم دوروا بلكي بلاقيلي واحد عايش"

‎"رحتي مقطعة يما يا حبيبتي".