01-مايو-2019

رمسيس موراليس ازكويردو/ كوبا

يبدو أن الماء الذي عبه بانقطاع نفس ينضح من فوره ناحية صدغيه، والنقاط التي تدحرجت دبقة فوق عيونه تزيد من سرعة رمشه وشدة ضغطه لجفنيه. لم يكن الخشب الذي التصق بكعب حذائه ما يمنعه فعليًا من الهرب، ولا الستائر التي اعتصرت أكتافه، ولا حتى الشرط الجزائي الكفيل بزجه في قبو قسم التحقيق لسبعة أيام وسبع ليال تتمدد كمقبض في نار، ولكنه الحضور الذي أطبق عليه كجدران القبور.

السيدات والسادة الذين دخلوا البارحة من ثقوب الأبواب وتسربوا من شقوق النوافذ ووقفوا شهودًا على أشنع لحظاته. وقد جاؤوا ذلك مرغمين لا لأن التذاكر نفدت والمقاعد امتلأت والقاعة ضجت بالحضور بل لأنه هو ذاته كان خارج اللعبة، لا يكاد يفقه من قوانينها شيئًا يُذكَر، والحقّ أن كل ما كان يملكه من معرفة تجمعت لديه بمحض الصدف والتنقل النقري بين سطوح الأشياء لا أكثر. لا يُعذّبه كثيرًا سهولة انهياره أمام المجوفين الذين يغزون عالمه كالذباب الملتف على بقايا الطعام، ولا ارتجافه أمام القادرين على التشكيك بكل ما يعرفوه الآخرون واتهامهم بالحمق والإسفاف. أعني أنه لم يستغرب كثيرًا تشكيك أحدهم بصحة اسمه وبدقة دافعه لإتيان فعل ما كوجوده على الخشبة في هذه اللحظة. وهكذا كان جمهوره قادرًا على خلع ملابسه عنه بمجرد التحديق الواثق برجفة صوته ويديه. كان جمهوره سريع الملل، يملك عيونًا ثاقبة كأعقاب الدبابير، يكتب الملاحظات بلا توقف، ويحمل في طريقه إلى المخارج الموزعة في الجهات الأربع المتقابلة كتفيه وركبتيه وأشياءه الأخرى، ربما كان هذا هو السبب الرئيسي وراء شعوره الطاغي بالخزي والنقصان.

في الوقت الذي كان يفكر فيه بمطلع الجملة التالية، كان قد نسي قفلة الجملة الحالية وانتفخت وجنتاه بالمايكروفون المحشو قسرًا في فمه. كان عليه ألا يفكر بأنه يختنق، لأن عقله سيصدق ذلك في رمشة عينٍ ويبدأ فعلًا بالاختناق، ورغم أن عقله هو المسؤول الأول عن هذه الفكرة كان عليه أن يهملها فورًا قبل أن تنضج. القدر المرسوم لأحدنا يتجاوب ببلاهة مع تصوراتنا عن الأذى ويسمع تخيلاتها بدقة متناهية وينفذ بأمانة، وكونه مرسومًا مسبقًا لا يعني شيئًا البتة، بل يزيد الأمور سوءًا لأنه يقترح حتمية تفكيرنا الذي سيشكله لاحقًا.

وعلى هذا توقف فورًا عن التفكير وملأت عينيه أسراب دقيقة من الرؤية المشوشة والأمور الغائبة التي لا يمكن أن تضر، أشياء حدثت وانتهت، وأشياء مرجح أنها لن تحدث طالما يمكنه تفادي نضجها بالنفخ الخفيف.

لكنه فكر مليًا بأن شيئًا لم يتغير حقًا، الطرق التي اهترأت عليها أحذيته المنتقاة بعناية استعادت حقها بالنجاة، لقد كانت بالأصل بريئة من نواياه وهو لم يكن يضمر لها شرًّا يذكر، ولم يكن بنيّته أبدًا أن يصطحبها هكذا بلا عودة، ولكنها الفوضى التي تمضي بها حيوات الناس عامة والتي تشبه بلا شك قطبة دخلت في ثقب ثم علت قليلًا قبل أن تخرج منه بلا أثر إلا توسيع رقعته. المهم الآن أن كل شيء عاد إلى أول حاله، عمره عاد كأن لم تملأه الخيبات والهزائم المرقطة والوقائع الفاشلة والمبتذلة، رغم أنه لا يعرف على وجه الدقة تعريف أو مكونات أي من هذه المفردات، ما كانت خيباته؟ ما هي هزائمه؟ كيف صارت مرقطة؟ ما معنى أنها مرقطة؟ لا جواب، ولكن الحمد لله فالأحذية عادت بلا ثقوب ولا غبار، والطرق أيضًا عادت في أول صباها بلا خطو يقلق ليلها وهكذا لم يعد مهمًا حقاً أن يعلم شيئًا مما قيل.

رغم أنه يعرف أنها لن تكون مرته الأخيرة على خشبة عبثية كهذه، أمام جمهور عبثي كهذا، في واقعة عبثية كتلك، إلا أنه كان مستغربًا حقًا لماذا يصر مجموعة من البلهاء على ملأ قاعته والانقضاض على قدرته على التركيز والتنفس. وحتى لو كان قادرًا في كل مرة على استعادة أعضائه المسروقة بعد العرض مباشرة، ورغم عدم ممانعته لاحتفاظ المستحقين لها بشروط محددة ومقابل مبالغ مقبولة من المال، لكنها كانت تعاد إليه بمجسات وأجهزة قياس ومونيتورات الله وحده يعلم ما هي. وكان في كل مرة عليه أن يركز أنه لا يختنق.. لا يختن.. لا يخت...

 

اقرأ/ي أيضًا:

النَّاسُ يسيرون إلى الخلف

مختارات من "كحول" غيوم أبولينير