19-سبتمبر-2016

جاذبية سري/ مصر

نستذكر في هذا المقال حياة وأعمال الكاتبة والناقدة المصرية لطيفة الزيات، التي غادرت عالمنا في 11 أيلول/سبتمبر من عام 1996، بعد مرور وقت قصير من حصولها على جائزة الدولة التقديرية للآداب في نفس العام.

تبدو لطيفة الزيات كتمثال "نهضة مصر" الذي اكتتب المصريون لإنجازه على يد أحد الأبناء المخلصين لروعة حضارتهم

لم تكن لطيفة الزيات مجرد كاتبة، بل كانت فنانة وأكاديمية وكذلك ناشطة، ساهمت في العديد من التغيّرات السياسية التي حدثت في مصر، كما أضافت أثرًا مهمًا في دور المرأة المصرية في المجتمع في تلك الأيام. كانت لطيفة الزيات امرأة صلبة شامخة سامقة كنخلة أصيلة من نخيل صعيد مصر، تمنح الأمل في أشد لحظات الضيق والشدة، وتستنبت الوعي بالذات في لحظات العتمة والانكسار، تبدأ بولادة جديدة، مشروع أدبي أو عمل عام، قادرة على "شد الحيل" وشد عود الوطن والناس. تجارب "الزيات" تبدأ دائمًا من نقطة ضعف أو لحظة أزمة تدفعها لكشف ما بداخلها من مواطن القوة والصلابة، لتقاوم لحظة الانكسار والتقهقر الإنساني.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة والنص.. تاريخ التجاهل والتطور

لا يحتاج الباحث لتقصي سيرة لطيفة الزيات الشخصية فهي جزء فاعل في ذات الجماعة، منحت هذه الذات وأودعتها لأبطال قصصها الفريدة، ليس في حياة "الزيات" ما يمكن أن نسميه شخصي وذاتي بمعناه الضيق، فقد منحت خصوصيتها الحرية دون أن تمس حرية الآخرين، أو تختلف مع منظومة المجتمع من عقائد وقيم، فهي ذات الوطن في لحظات تمردها الإيجابي، الفعّال المؤدي إلى التحرر من كل قيد يكبّل انطلاق الذات الإنسانية العاشقة للغير والتحرر والمتطلعة إلى العدالة، في لحظات تبدو "الزيات" كتمثال "نهضة مصر" بدلالته ورمزه الذي اكتتب المصريون لإنجازه على يد أحد الأبناء الموهوبين والمخلصين لروعة حضارتهم القديمة، وكما يمنح التمثال ناظره بُعدًا آخر كلما نظر إليه من زاوية أو جانب مختلف كذلك يمكننا النظر إلى مسيرة "لطيفة الزيات" الحافلة بالمحطات. 

الدفاع عن ثقافة الوطن

كانت محقة حين أسست ورأست "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية" إذ رأت بحسها السياسي الوطني أن تكرّس نضالها دفاعًا عن خصوصية عقل الوطن وثقافته وهويته القومية، قبل أن تنهض منظمات ولجان دولية للدفاع ضد ما يسمى الآن "العولمة" كصيغة مقنّعة للاستعمار الذي يسعى إلى مسح الهوية وتفكيك الثقافة الوطنية والملامح القومية في منظومة كونية ظاهرية، تنتجها ثقافة أحادية مهيمنة.

دخلت لطيفة الزيات السجن مرتين، الأولى عام 1949 حين كانت في السادسة والعشرين، والثانية في "خريف السادات" الشهير

تميز نشاط "الزيات" بثلاثة ملامح أساسية لا يمكن قراءة ملمح دون الآخر، وقراءة هذه الملامح قراءة صحيحة تؤدي بالضرورة إلى قراءة الملامح الأخرى. أول هذه الملامح هو وجهها النضالي الذي برز مبكرًا للغاية حيث شاركت "لطيفة" وهي تلميذة بالمدرسة الإعدادية في المظاهرات المناهضة للاحتلال البريطاني في مصر، ثم أصبحت طالبة جامعية يسارية مشهورة في جامعة القاهرة، إلى أن انتخبت في 1946 سكرتيرًا للجنة الوطنية للطلاب والعمال في الجامعة، التي قادت مظاهرات 1946 الشهيرة ولعبت دورًا في زعزعة الاحتلال البريطاني. كان لانتخاب "الزيات" في هذا المنصب شأن في تغيير النظرة العامة عن انتخاب امرأة لرئاسة إحدى اللجان الطلابية في الجامعة المصرية، وأضاف دورًا مهمًا في حركة التغيير الاجتماعي المصري وقتذاك، وبذلك تحولت "لطيفة الزيات" من ابنة لطيفة لإحدى عائلات الطبقة الوسطى المصرية، إلى امرأة شابة تقود وتجادل وتناضل وتصبح لاعبًا أساسيًا في صنع بعض القرارات المصيرية الخاصة بالحركة السياسية داخل أسوار جامعة القاهرة، في السنوات الأخيرة للاحتلال البريطاني لمصر.

اقرأ/ي أيضًا: ما يجب أن يقال في يوم المرأة

دخلت السجن مرتين، الأولى في آذار/مارس 1949 حين كانت في السادسة والعشرين، والمرة الثانية في "خريف السادات" الشهير، وكانت على مشارف الستين وهي ملء السمع والبصر. في المرة الأولى، شاركها في السجن زوجها الأول أحمد شكري سالم، دكتور العلوم فيما بعد وأول شيوعي مصري يحكم عليه بالسجن سبع سنوات، وفي المرة الثانية شاركها أخوها "محمد الزيات" نائب رئيس مجلس الوزراء المصري حينذاك، أحد رجال السادات الذين عارضوا سياسته بعد اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني.

وجه إبداعي

والملمح الثاني للطيفة الزيات هو عملها الأكاديمي واحتضانها لعشرات الباحثين في كلية الآداب أو في معهد الفنون المسرحية، منذ دخلت الجامعة عام 1952 وقدمت أطروحتها المهمة حول حركة الترجمة في مصر منذ القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.

وأما الملمح الثالث والباقي للأجيال والذي انصهرت فيه ملامحها الأخرى، هو وجهها الإبداعي، وبرزت فيه سواء كانت تكتب رواية أو سيرة ذاتية أو دراسة أدبية، بدءًا من "الباب المفتوح" عام 1960، و"الشيخوخة" 1986، و"حملة تفتيش..أوراق شخصية" 1992 ومرورًا برواية "صاحب البيت" ومسرحية "بيع وشراء"، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث، في النقد الأدبي الإنجليزي والأمريكي. هذه الكتابة مرجعيتها جغرافية الواقع والتجربة الإنسانية والحياتية، عبّرت عنها "الزيات" في مراحل مختلفة من حياتها، من فتاة جسور وجدت الخلاص في الانتماء إلى الكلّ، الصبية التي يخيفها العجز عن المقاومة والفعل، والمرأة في منتصف العمر محنطة بين دفتي كتاب تحاشيًا للصدام. 

تتميز رؤية لطيفة الزيات بأنها تمنح الفن حياتها، أي يكون مادة جوهرية وتعطي الإبداع صيغة التوثيق

منجز الكاتبة الإبداعي هو فحص الذات ومراجعة الأوراق والمواقف من مسيرة الشخصية البطلة التي لها ملامح المبدعة في الواقع، مراجعة تتم بغية الوصل في لحظة تبدو ضبابية وقائمة تسعى من خلالها إلى حشد همة ذاتها، وهي ككاتبة عبّرت عنها مرارًا باعتبارها "الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، أي بين الفن والواقع". يمكن أن نحمل تجربتها على أنها مزج بين الصدق الفني والنقد الواقعي والذاتي، كتابات تتألق بالانتماء للجماعة وتكشف الكتابة عن الذات ببساطة وسهولة ووضوح، لاكتشاف نقطة -تراها الكاتبة- مفصلية: هي قضايا كونية وفلسفية في حياتها وحياة أمتها بغية الوصول إلى تأويل وحلول لهذه القضايا التي تؤرق الفرد والعالم.

إبداع الفن والحياة

تتميز رؤية لطيفة الزيات بأنها تمنح الفن حياتها، أي يكون مادة جوهرية وتعطي الإبداع صيغة التوثيق، تبدو في بعض الأعمال كمن تكتب يومياتها، في إشارة واضحة بأنها تريد مزج الفن والحياة والمجتمع. في مجموعتها القصصية "الشيخوخة" توثّق ما هو عابر ويومي ومفصلي وواقعي بالكتابة الإبداعية، وظلت تتميز على الأخريات من بنات جنسها بصدق تلك الرؤية الإبداعية للكتابة والحياة بشكل عام، حتى أن أجيالًا لاحقة من الكاتبات المصريات كتبن باتساع مفرط عن ذاتهن المغلقة لتصورهن أن ذلك ربما يهم القارئ في شيء، في الوقت الذي تقوم فيه "الزيات" بإيجاز منهجها في الكتابة بأنها ليست غاية في ذاتها، بل هي فعل من أفعال الحرية الكثيرة ووسيلة لإعادة صياغة الذات والمجتمع من حولها. تتجلى تلك الحرية في الكتابات النقدية للطيفة الزيات فيلاحظ أنها لا تلغي ذاتها لمنطق العمل الأدبي، أيا كان منطقه مخالف لأيديولوجيتها، بل تجمع في تحليل النصوص الأدبية صوتها بجوار الصوت الآخر وتعمل على تأكيد قدرتها وصلًا واتصالًا بالآخر كي توصل متعتها ورؤيتها للعمل الأدبي إلى الآخرين، ويمكن أن نلمس ذلك بوضوح تام في دراساتها النقدية: "نجيب محفوظ.. الصورة والمثال" 1989، و"صورة المرأة في الروايات والقصص العربية" 1989، و"فورد مادوكوف والحداثة" 1996.

روايات الذات والوطن

وجدت لطيفة الزيات حريتها الكاملة في روايتها "الباب المفتوح"، حين طرحت العلاقة الجدلية بين الفرد وحرية مجتمعه والشروط الضرورية لتحقيق تلك الحرية على مستوى فردي وجمعي، وحين ربطت مسار الفرد بمسار الوطن ارتباطًا عضويًا. تحمل رواية "صاحب البيت" كل سمات أدب لطيفة الزيات، ويعتقد الباحثون أنها تحمل الكثير من سيرة مبدعتها، بطلة هذه الرواية تعيش هم الوحدة بعد سجن الزوج، وتبدأ الرواية بدقات متتالية لكي تستيقظ "سامية" من سباتها وتنتقل مع زوجها من مهرب إلى آخر، هي ذات الكاتبة على نحو ما في مقتبل العمر تمرح في صحراء سيدي بشر بالإسكندرية، تستنهض شعوب الشرق وتغني للربيع، بعد صدور الحكم على زوجها الأول، الذي تنقلت معه بين عامي 1948 و1949 في خمسة منازل، كان آخرها بيتها الذي أقفله البوليس السياسي في صحراء سيدي بشر. كانت عملية الانتقال ليلا من مسكن إلى آخر حتى وجدت السجن مسكنها في آذار/مارس 1949.

توحدت لطيفة الزيات مع ذاتها وشخوص قصصها، امرأة واعية لها القدرة على النضال والعمل

اقرأ/ي أيضًا: "فتاة القطار".. رواية عن نساء على الحافة

في كتابها الشهير "حملة تفتيش.. أوراق شخصية" الذي تروي فيه قصة وحكايات اعتقالها الثاني، ثمة فكرة متكررة عن مفهوم البيت كثيمة أساسية تتمحور حولها الكتابة. كانت إقامتها تطول أو تقصر من البيت القديم الذي ولدت فيه وحُفر في ذاكرتها، عادت إليه بعد سجنها، ثم اختفى هذا البيت وتمت إزالته نهائيًا وعجز الجد عن بناء بيت مستقل: "كان البيت القديم هو قدري وميراثي، وكان بيت سيدي بشر صنعي واختياري". في رواية "صاحب البيت" يخبرها صديق زوجها بهروب الأخير من السجن، هي التي تعتقد أن زوجها معها لم يغب أبدا. لم يستطع سور السجن أن يغيبه من ذكراها، وهي التي واجهت عائلتها مرارًا لتستردها إلى البيت القديم، ويعتقد زوجها أن تركها البيت في غياب زوجها خيانة له لأنها رأت في هذا البيت حريتها الكاملة وتمسّكها بالطريق الطويلة التي خطتها لتدخل الجامعة وتتزوج الزيجة التي اختارتها مستقلة عن العائلة، كأنها عاشت العمر كله في انتظار لحظة اللقاء وكأن روايتها تبحث عن وهم التوحد مع الآخر.

هي "لطيفة الزيات" التي توحدت مع ذاتها وشخوص قصصها، امرأة واعية لها القدرة على النضال والعمل والتواصل مع الآخر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مارثيلا سيرانو.. التحديق بعيون النساء كلهن

كاتب نبيل في رجل نذل