19-أكتوبر-2022
لوحة لـ حكيم العاقل/ اليمن

لوحة لـ حكيم العاقل/ اليمن

كلما فكرتُ أن العالم قد ينتهي قريبًا بفعل الجشع أو الجنون، تمنيت العودة لشيء أعرفه، لصوتٍ أحفظه كتعويذة. تمنيتُ للحب لو أنه يندمل كما جرح في فضاء الكون المَهيب.

لقد فرِغتُ. أفرغني الحزن مني.

الآن، فقط، أعرف ما أردته. أردتُ أن أكون معك لأقهر وحدتي، حتى أتغلب على كل هذا الشجن الذي في داخلي. وأن تكون لي درع، دفء، أواجه به صلادة الوقت.

أذكر جيدًا كيف أرادت أصابعي أن تصبح أوتارًا مشدودة في عنق عود. وأن تكون أنت كالريشة تخفق في قلبي. قلبي الذي تركض فيه الغزلان، فيشرد.

ولم يكن سوى النعاس، ولم تكن قريبًا.

ليس هشًا ما بيننا. لست كائنًا لا تحتمل خفته، ولكنك تطفو رغم ذلك. أما أنا فقلبي خُشْف. لا يجيد سوى الفزع. لا يقترب إلا بالهرب.

قلبي هذا يرفرف بسرعة كمؤشر حقيقي على القلق. يقول الطبيب مطمئنًا: "لا يزال ضمن النطاق الذي يمكننا أن نعتبره طبيعيًا. لا علاجات أوصي بها، فقط حاولي أن تهدئي، ريلاكس".

وأقول لنفسي: ستمضي الحياة بعدكِ، اهدئي.

ستمضي الحياة بعدك يا حبيبي أيضًا، بعدنا. دونك. دوني. دوننا.

ليس عمرنا سوى إغفاءة في يقظة الوجود أو شرارة في عتمة الأبدية. لسنا سوى سقطة مدوية تتكرر، يتلقفها العالم بملل شديد. سنحترق، ثم ننطفئ في لحظة. 

لسنا شيئًا يُذكر.

قد يبني العالم فوق رمادنا برجًا سكنيًا، أو دارًا للمسنين أو حتى ملهى ليلي.

قد ترقص الآن فوق عظامك امرأة حزينة، أو ربما يتبول رجل عجوز. ستسقط لا محالة، فلا تفكر كثيرًا في الأمر. احلم فقط بما سينبت بعدك.

وعلينا أن نترك الحطام يستقر ففيه كُنْه الوجود، وأسرارنا المُرّة. ألم يتساءل زوربا في المشهد الأخير: "هل رأيت -يا معلم- ما هو أعظم من الحطام؟".

*

 

كم نظرنا إلى كتلتينا البشريتين في المرآة، دون أن نجرؤ على التقاط صورة تجمعنا، رغم وعودنا التي نقطعها في كل مرة أننا -والله- سنفعل.

ممّ نخاف يا ترى؟ من نتوءات أجسادنا أن تفضح شهوتنا، أم من وجهينا الجافين كحبات التين في الخريف أن يُمطِرا؟

ما الذي صنعناه بأنفسنا؟ لقد تحوّلنا إلى سطوح شاسعة لا يعبرها الضوء ولا العواطف. تَجمّعت فوقها ثلوج التفاهة ودفقات الأرق.

أنّى ارتحنا إلى السطح، أَمِنَّا حجابه، حتى بتنا نتخشّى أن يرشح؟ وإنّا نخاف من كل ما يمكنه أن يخترق الأديم، من كل ما يُعالج في القاع، ومن كل ما يرسو. نجزع من أن يندلف الشوق إلى أقاصٍ عصية على اللمس والنظر.

ولنا أن نسأل: ماذا لو يُضاء العمق بعد كل هذا الوقت من العتمة والتكتم؟ كم "يا للهول" سنطلقها آنذاك بينما تتكشف أمامنا مساحات الهَمَل العظيمة؟

وماذا لو يُزيل النور أثر الخدر؟ كم سنكون وجوه أحبتنا في التَجلّي؟ كم سيكرر الحب نفسه في الصحوة المتوهجة، وفي الصراخ، كشروحات لا تنتهي لمعنى الألم؟

أردتُ أن أبتعد عنك حتى تراني، ففي كل اقتراب التباس. ربما في البعد يُصلِح الحب نفسه، ويُكتَشف في النأي سرّ التَجدُّد.

*

 

نحن لسنا، في اليقظة وفي السهو، سِيَّان.

في الغفلة اللامتناهية ننتظر انهيار العالم، بينما ينتظر انهيارنا، بصبر عجوز ترفو سراويل أبنائها الذين رحلوا، كفعلٍ يُعيد إلى قلبها الدفء وإلى عينيها مشهد الامتنان.

إن كان لابدّ من الأمر، فتعال نُعلِن انهزامنا أولًا. نشرب نخب صحوتنا: بصحتنا. ما معنى أن نقاوم على أية حال؟

بائسة هذه الحياة جدًا. لم يعد يكفي الحب وحده، أو الرفقة، لجعلها محتملة، ولا حتى الاثنان معًا. وحده الحلم يستطيع إنقاذنا.

لم نكن شفافين تمامًا، علينا الاعتراف بذلك قبل كل شيء.

لم أتمكن من النظر في عينيك وأنت تقول لي في وصفنا: "كم كُنّا نحب. كُنّا أجمل، أصدق، أكثر براءة". وكأنك تعتذر مسبقًا عن هذا الذي نُسمّيه، من فرط إعجابنا بالمجاز، حبًا.

لن يُرممنا الحب بعد الآن.

"وداعًا يا حبيبي"، قلناها ونحن نتثاءب.