05-أغسطس-2020

بيروت اليوم بترت، فقدت أجزاءً من جسدها ومن روحها (أ.ف.ب)

بيروت تنفجر وتختنق ويموت سكانها تحت الركام. وصف الكارثة لا يمكن أن تختزله كلمات. وحدها المشاعر المكبوتة والحناجر المبحوحة المختنقة يمكن أن تشي بقليل مما أصاب بيروت واللبنانيين. هناك وجع ويأس وحزن عالق بين الجفون ونار تضج في الصدور.

بيروت تنفجر وتختنق ويموت سكانها تحت الركام. وصف الكارثة لا يمكن أن تختزله كلمات. وحدها المشاعر المكبوتة والحناجر المبحوحة المختنقة يمكن أن تشي بقليل مما أصاب بيروت واللبنانيين

بيروت اليوم انفجرت بعد 15 عشر عامًا من مراكمة للحرب الأهلية، وبعد ثلاثين عامًا من مراكمة نظام طائفي ناهب، وبعد أن تغنى زعماء الطوائف بالكرامة وقاموا بحشوها في بطوننا حتى انفجرت. اليوم، نظام "الأزلام والسماسرة والقبضايات والشبيحة والمقاولين وأصحاب المصارف والفاسدين في الدولة" فجروها من "ساسها لراسها".

اقرأ/ي أيضًا: مستشفيات بيروت تفقد قدرتها الاستيعابية ومخاوف من كارثة

4 آب مأساة غير قابلة للمحو بعد اليوم. هذا التاريخ سيحفظ فساد الساسة في لبنان وفساد الطبقات الحاكمة ومنظومتها الطائفية الهجينة. فليتعانق كل من 17 تشرين الأول 2019 مع 4 آب 2020 ليحاسبا هذه السلطات بقضاتها وإداراتها. اليوم حزن وغدًا غضب وغضب وغضب يا 17 تشرين.

بيروت اليوم بترت، فقدت أجزاءً من جسدها ومن روحها. امتد الانفجار لعشرات الكيلومترات. سمع دويه في قبرص وفي صيدا وفي جونيه. شاطئ بيروت صار لونه أحمر داكنًا من مخلفات الكيمياويات المتفجرة. كارثة بيئية وصحية ستتوضح آثارها حين يستفيق اللبنانيون من هول الكارثة. أمراض سرطانية وغياب تام للسياحة وتوقف حركة وموت المدينة الحرفي.

الناس علقت في منازلها. ما أن انبلج الصباح حتى وجد الناس مختنقين في سياراتهم ومنازلهم وهناك من فقد ولم يعرف عنه شيء حتى الآن. أجساد ذابت بفعل الحرارة المرتفعة والآلاف من الجرحى وتقديرات ترجح تكلفة مليارات الدولارات كتعويضات وإعادة إعمار، إضافة إلى رعب منتشر وأزمات نفسية واجتماعية لن تحصى آثارها أو تعالج في المدى القريب.

اليوم صار لبنان بلا عاصمة. سقطت العاصمة لكنها لم تسقط على يد عدو محتل. سقطت بأنياب حكومتها وفجور نوابها وعهدها القوي. سقطت بيروت بجشع المسؤولين وتخاذل القضاة عن حمايتها. سقطت بالإهمال والتقصير وعدم الكفاءة.

هناك مسؤولية يجب أن يتحملها المسؤولون. أقل ما يمكن أن يقدم للبنانييين ولبيروت هو تحقيق شفاف يحدد المسؤوليات ومن ثم يعاقب ويقصي كل من أهمل وقصر وكان غير كفوء في أداء واجبه. ومهما كانت الأسباب، سواء كانت مفرقعات نارية كما يحلو للبعض تمويه الكارثة أم كانت انفجارًا كيمياويًا أم مستودعًا للأسلحة فيجب على الحكومة أن تستقيل. هناك أسماء يجب أن تنتهي بعد 4 آب، وهناك قضاة يجب أن يقولوا كلمتهم وهناك نواب يجب أن يحاسبوا ولن تشفع لهم استقالاتهم لأنهم مسؤولون بوجه الشراكة والتضامن عن تاريخ طويل امتد ثلاثين سنة من الفساد والمحاصصة والمحسوبية.

اليوم، أكثر من أي يوم مضى، يجب أن نهتف بشعار "كلن يعني كلن". هناك من يقول بأن الوقت ليس وقت حساب، وكل كلام من هذا القبيل يساهم بتمرير الجريمة دون عقاب. اليوم، في هذه اللحظة، يجب أن يكون العقاب والمحاسبة والمساءلة والاقتصاص للعدالة. فهناك جريمة حصلت بحق كل اللبنانيين، وستحصل في المستقبل جرائم مماثلة. لذا لا يمكن السكوت عن قتلنا بالمفرق والجملة.

قلناها منذ زمن طويل، وكررناها على مدى شهور، "هذه السلطة لا يمكن أن تنتج سوى الأزمات" وهذا النظام الطائفي بوجهيه الطبقي والميليشياوي كان يجب دفنه في لحظة 17 تشرين. لكن للأسف، كان هناك من وقف سدًا منيعًا لحماية النظام الناهب وقال حرفيًا "العهد لن يسقط"، وأنه و"في أي انتخابات نيابية سيعاد انتخاب ذات المنظومة"، ومن هنا بدأت المشكلة مع كل من حمى النظام ووقف إلى صفه ناكرًا بذلك ثورة اللبنانيين. وهذه مآلات ونتائج حماية النظام من السقوط والالتفاف على الثورة في 17 تشرين والإتيان بحكومة تكنوقراط فارغة وفاشلة.

 اليوم، مات النظام اللبناني ويجب دفنه دون تكريمه، اليوم انتهت الجمهورية الثانية ويجب البحث عن رؤية ومنظور وفلسفة جديدة للبنان المستقبل. لكن كيف ومن أين نبدأ؟ أولًا يجب شد عصب 17 تشرين من جديد، وتشبيك التحالف مع الناس والمقهورين والفقراء والكادحين والمتضررين من هذه المنظومة من أجل إعادة إنتاج خطاب يكون مقدمة لهدم النظام الحالي، والانتقال إلى نظام جديد يبدأ بإلغاء الطائفية السياسية وينتهي بإقامة دولة العدالة الاجتماعية العلمانية المدنية الديموقراطية.

لكن هل الطريق سهل؟ بالتأكيد لا. هناك عشرات السنوات من تغلغل أزلام الأحزاب في المرافق والإدارات العامة وداخل الدولة العميقة في لبنان. المتنفعون كثر وأصحاب المصالح كثر وأرباب الفساد كثر لذلك فالمعركة لا ريب كبيرة جدًا.

هذه بيروت الحبيبة. بيروت يجب أن تعود كما كانت وأجمل مما كانت. ولا شك أنها ستعود إلى الحياة وستعيش وتغني وتسهر وترقص وتفرح وتضحك، وسيكون ذلك بسواعد أبنائها الطيبين وكل من يحب بيروت ولبنان.