10-ديسمبر-2015

رشا مهدي/ مصر

قد يفهم ما قاله تي. إي. لورنس عن الجيوش العربية يومًا، في تصريحه أنها "تتقن النصر بلا خوض معارك" أنه محض استشراق وتعال عنصري. لكن ماذا لو أزيحت الريبة التي يثيرها الرجل بعيدًا عن مقولته تلك، وكيف لو ترافقت هذه الإزاحة بغض الطرف عن هالة القدسية التي تضفى على المؤسسة العسكرية عربيًا؟

فتح الجيش العراقي المجال أمام مليشيات عديدة لتقوم بالأعباء القتالية التي من المفترض أنه وكيلها الحصري

فمثلًا، لا يمكن القول اليوم، في مرحلة طغيان المليشيا على الجيش الوطني في المشرق العربي، أن جيش ما بعد صدام حسين في العراق قد لاقى هزائمَ أطاحت به أمام تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، هذا أنه لم يقاتله بالأساس، بل امتهن الفرار وتكرار الفرار من الرمادي إلى الموصل.. إلخ، سانحًا المجال أمام مليشيات عديدة وأشباه مليشيات، عراقية وغير عراقية، يغلب عليها الطابع العنصري المذهبي أو العرقي الشوفيني، كما في حالتي الحشد الشعبي والبيشمركة، أن تتصدر المشهد وتقوم بالأعباء القتالية التي من المفترض أنه وكيلها الحصري والموجب عليه إتمامها، مرتضيًا لذاته تصنيفًا ثانيًا أو ثالثًا بين القوى المسلحة على المستوى الوطني. وما التوصيف للحقبة التي يعيشها الجيش العراقي إلا إشارة إلى معطى آخر يحيل إلى العقيدة والتسلح عنصرين مركزيين في مستويات التقييم الأساسية لأي قوة عسكرية نظامية أو شبه نظامية.

يظهر في أحد الأفلام الوثائقية التي بثتها شبكة أخبار الكابل الأمريكية "CNN"، أثناء مرحلة الغبطة الأمريكية ببراعة بول بريمر حاكمًا عسكريًا ومفتتًا طائفيًا للعراق، مشهد حلاقة الشارب عن وجوه المجندين العراقيين على يد المدربين الأمريكيين لحظة تسجيلهم في الدورة التدريبية وإطلاعهم على إجراءات السلامة والنظافة المتبعة في معسكر على مقربة من العاصمة بغداد، كان الخجل مهيمنًا على المشهد، بل والرفض في بعض الحالات، على قاعدة أن الشارب العربي "يجب أن يقف عليه العقاب" بعد تمشيطه وبرمه، علامة فحولة ورمزية ذكورية طاغية.

وما الدلالات التي يطفح بها هذا المشهد إلا إشارات غير مواربة على شكل التعاطي الأمريكي مع إعادة بناء الجيش المنهك من حربه الطويلة مع إيران، من ثم غزو الكويت وعاصفة الصحراء، لتليها سنوات تجويع وإفقار اختتمت بوضع اليد عليه وعلى البلاد، وتفكيكه كي تعاد هندسته وفق نصائح بريمر.

بحسب جون كيجن فإن "ثقافة الجيوش، تعد أحد العوامل الحتمية في مسار المعطيات العسكرية والشؤون الحربية"، ما يؤكد على انتباه اليد التي "تطوعت" لإعادة بناء الجيش العراقي، على صيرورة ثقافته العسكرية الوطنية، هذا أن لا ثقافة عسكرية مجردة بمعزل عن المستوى الوطني، وإلا لما كان المنسق الأمني الأمريكي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، الجنرال كيث دايتون، صرح في محاضرته في ندوة "SOREF" حول سياسة الشرق الأوسط، في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط في صيف 2009، بأن الهدف من وراء إشرافه على برامج تدريب الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية يكمن في "استبدال الرجولة الفلسطينية برجولة جديدة".

من المتبادل الشائع، كحقائق معلوماتية وتحليلية لا افتراضات، في أوساط المنتديات المعنية بالشؤون العسكرية، أن العديد من جيوش الشرق الأوسط، ومنها العربية تعتمد على تكتيكات وأسلحة نكوصية أقرب ما يمكن عليها ما كان متبعًا أثناء الحرب العالمية الثانية من قبل بعض من شارك فيها من جيوش، بينما يقف مقابلها من يتبع ما هو حديث مرن متزن من ناحية استراتيجية عسكرية يعتمدها جيش نظامي، والمعني هنا هو جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يستقي بنيته العسكرية مما هو متعارف عليه في أوساط جيوش حلف شمال الأطلسي. 

صرّح دايتون أن الهدف من تدريب الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية هو "استبدال الرجولة الفلسطينية برجولة جديدة"

وهو، جيش الاحتلال، الذي امتازت بدايته بالمليشاوية، وتشكل من تحالف مليشيات العصابات الصهيونية التي قاتلت أربعة من الجيوش العربية في فلسطين، لتكون النتيجة تهويد الأرض وطرد الإنسان مع طرد تلك الجيوش أيضًا. بينما أكثر من جيش عربي، ذي بدايات "غير موفقة" في كنف الانتداب والوصاية الاستعماريين، انتقل رويدًا رويدًا متنكرًا لطابعه المؤسسي و"الشرعي" إلى تفريخ جيوش داخل الجيش وغلبة المليشيات عليه.

ومما تمتاز به الثقافة العسكرية عربيًا، الإفراط في حضور المركزية على حساب المرونة لصالح المتطلبات الميدانية والمتغيرات المحلية والإقليمية، إضافة إلى الجانب المتعلق بالفجوات المعلوماتية، فما لدى العرب هو مخابرات داخلية وليس استخبارات عسكرية بالمعنى العملي للكلمة، في ظل سيطرة حالة من الرهاب الأمني من المجتمع والحريات العامة والسياسية وحضور لعقدة الرجل الأبيض تترجم بالعلاقة الشائهة مع التعليم والعلوم العسكرية، التي تبقى المعاهد والكليات الحربية الغربية هي النبراس لها في نظر قيادات الجيوش، بينما يغيب النقد الذاتي والتقييم عن الأداء القيادي. ولا تغيب الفوارق الطبقية القادمة من ردهات الحيف المجتمعي إلى المؤسسة العسكرية، الجيش المصري مثالًا، ويشوب عملية التجنيد الإجباري من النقائص والسياسات المزاجية ما يجعل العملية إجبارية حقًا، وبعيدة كل البعد عن مفهوم "خدمة العلم".

 قد يكون هذا كله مفهومًا أمام غياب دولة المواطنة في تجارب وصل العسكر فيها إلى الحكم بانقلابات لم يعتزلوا السياسة بعدها، حتى جاءت ثورات الربيع العربي لتزيح بعضًا منهم، بينما أعاد بعض آخر انقلابه مجددًا، مرسخًا متلازمة الجيش الأحمر، القائمة على الخطاب الشعبوي من أفواه العسكر واعتماد القهر المادي وسيطرة الخوف كعنصرين أساسيين يجدان تبريرهما في خطاب العسكر من منبر السلطة. لذلك، يفترض الاقتناع بأن لا جيش وطني بدون مواطن وطني، ولا مواطن وطني بدون دولة وطنية تحتكم إلى المواطنة المتساوية، وإلا نكون بانتظار نصر آخر من انتصارات الجيوش العربية لكي نكون قد انتهينا.

اقرأ/ي أيضًا:

المالكي وانهيار الجيش العراقي

سوريا.. جيش في حماية مكتب الرئيس