16-سبتمبر-2016

حسنا. لا يبدو الأمر كارثيًا كما يتصوره البعض، ويُصوِرُه الكثيرون. عندما يناهز أيُ منا سنًا معينة، أو يودع مرحلة عمرية ليستقبل أخرى، غالبًا ما يحتشد ذهنه بالتساؤلات عما مضى وعما هو قادم. وربما تمارس النفس عادتها الأثيرة في اجترار سيل الخيبات والمرارات التي ولًّت، وبقيت آثارها ناتئة في الذاكرة، مُطلة بين حين وآخر كرأس طفل عابث، يأبى إلا أن يُكدر على الآخرين وربما على نفسه، صفو الأوقات الهانئة، وهي قليلة على أية حال.

وفي ظل ثقافة بيئية ومجتمعية تُلح على اقتران عامل العمر أو عدد السنوات التي قضاها المرء حيًا - برغبته أو لعدم وجود بدائل أخرى - بأمور كثيرة كالزواج والإنجاب، والإنجاز المهني والمادي، ومقدار ما يتمتع به المرء من تبجح ليعلن للآخرين كم هو سعيد و"مستقر!".

تجد نفسك مدفوعًا في مناسبة ذكرى ميلادك - لا أدري لما يوصفونها بالعيد؟ - لطرح شكل من أشكال الرؤية، لذاتك المجهدة بطبيعة الحال، ولذوات الآخرين ممن تعرفهم أو لا تعرفهم من البشر والكائنات

تجد نفسك مدفوعًا في مناسبة ذكرى ميلادك - لا أدري لما يوصفونها بالعيد؟ - لطرح شكل من أشكال الرؤية، لذاتك المجهدة بطبيعة الحال، ولذوات الآخرين ممن تعرفهم أو لا تعرفهم من البشر والكائنات، هؤلاء الذين يشكلون ما نسميه العالم على نحو حاسم، وبيقين مثير للسخرية.

إذن يتم كاتب هذه السطور عامه الثلاثين في منتصف شهر أيلول/سبتمبر البغيض، ويود - في نبرة رثائية\ساخرة - أن يُلقي بنظرة على ما انفرط من حبات عقد الأيام، دون شكوى حقيقية في الواقع، أو تباكٍ على أي شيء. فالثابت الوحيد أن كل واحد وكل شيء سيمضي، يبقي فقط الحزن المبهم على المُضي ذاته بلا مبررات أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا نكتُب بالمجّان؟

هي إذن عدة مشاهد تلوح في الأفق الغارب لسنواتي الآفلة، وربما لإلحاحها دون غيرها سأعرض لبعضها، كنوع من الاستئناس، وكإعلان بأكبر قدر من الصلف أنك يا مستقبلي لا تُشكل بالنسبة لي أية قيمة ممكنة، ريثما تتحول إلى ماضٍ يُمكن وربما ينبغي على أن أتذكره يوما.

(1)
السُباب الخالي من الكراهية لا يصدُر إلا على لسان طفل

كان الجو صحوًا وبرغم ذلك لم تتعامل الشمس معي برقة مماثلة، حرارتها اللاهبة، وسخونة الأرض، دفعتا الطفل الصغير إلى الالتجاء إلى بيت الجدة حيث الظل الممدود، وكوب الماء البارد جائزتان مضمونتان دومًا. طرق الباب فما رد أحد، دفع الباب الموارب ودخل. نادى بصوت خافت ثم بصوت عال، لا يبدو أن هناك أحدًا بالداخل. اندفع بثقة صاحب المكان، وحماس إرواء الظمأ يحدوه ليزيل غطاء الزير المجاور لمدخل قاعة الجدة حيث تُصلي وتستقبل الضيوف، فوجده فارغًا!

انتظر لدقائق، وسرعان ما ميز صوت أمه وخالته وهما تقتربان من المنزل، وتدفعان الباب الذي واربه خلفه. اندهشت أمه من وجوده، فيم أزاحته الخالة من طريقها لتفرغ الحلة الألومنيوم التي تحملها على رأسها ممتلئة بالماء في قعر الزير.

طلب من خالته أن يشرب فطالبته بأن يحضر كوبًا من الداخل، دخل فوجد كل الأكواب متسخة، فعاد ليطلب منها أن تدعه يشرب من الزير مباشرة لأنه لن يكلف نفسه مشقة الصعود لأعلى حيث الحنفية ليغسل أحد الأكواب. رفضت، فكرر مطلبه، صممت، فألح، صرخت فيه أن يخرج ويذهب ليشرب من بيتهم، فانفجرت - إلى اليوم لا يدري كيف - ماسورة من السُباب القذر الذي لم ولن يتلفظ بأي من كلماته قبل أو بعد هذا الموقف.

دفعته أمه للخارج في حرج بيّن وأغلقت الباب، فما كان منه إلا أن رفع صوته بالسباب بل واستعان بعدد من قطع الطوب المتكسرة والزلط المدبب، ليقذف به باب بيت الجدة وشبابيكه. سارعت الأم والخالة للاحتماء بالداخل وهما تستغيثان وتغلقان النوافذ المفتوحة، وصاحبنا سادر في غيه لا يتراجع ولا يرده تدخل العابرين في الشارع.

فجأة ربتت يد حانية كتفه، وبنبرة مندهشة سألته: بتعمل ايه يا واد؟
التفت لتتصفح عيناه جدته بثوبها الأسود، قامتها القصيرة، ونظرتها الحانية، فألقى كل ما بيده وارتمى في حضنها شاكيًا وباكيًا:
- مش عاوزين يشربوني من ميتك يا ستي؟
حملت الجدة حفيدها ذا الخمس سنوات بين يديها ودخلت به الدار، وأمالته ليشرب من قلب الزير.
اعتدل بعدها ليجدهم جميعًا ينظرون إليه، مترقبين ماذا سيقول.
- المية حلوة أوي ياستي.
لم يزد عليها وغادر متجاهلًا الجميع.

(2)
شرط المحبة الجسارة

يلتفت الصبي خلفه في توتر. تُرى هل تراه؟ منذ سنوات الابتدائي وهو يهواها. والآن بعد أن انتقل إلى مدرسة أخرى في المرحلة الإعدادية، لم تعد هناك فرصة لكي تراه، سوى أن يمر من هذه الناحية من باحة المدرسة، حيث يمكن لتلميذات مدرسة البنات المجاورة أن يرين الرائح والغادي. طيب. هل رأته هي يومًا؟ هل فكرت أصلًا أن تراه؟ سؤال صعب لكنه يتمنى أن يكون الجواب مثبتًا لا منفيًا.

اقرأ/ي أيضًا: ذكريات عيد الأضحى.. يوم ذبحتُ أخي

العجيب في الأمر أنهما كلما التقيا في طريق، تُبادر هي بأخذ الجانب الآخر منه أو تلجأ لأي منعطف قريب. أهذه دلالة محبة أم كراهة أم استهبال؟ ظل السؤال يشغل باله، وربما لم ولن يصل إلى جواب حاسم له- لمَ لم يسألها ولو مرة؟ -.

حتى حينما التقاها مصادفة، وهي تصحب قريناتها لشراء مستلزمات عُرسها بعد ذلك بسنوات. كان ما بينهما قد انقطع ولم يعد أحد منهما يبادر للسير على الجانب المعاكس من الطريق حال رؤية الآخر، إلا أنها ابتسمت على رغمها وهو يمر بجوارها - ربما هي هذه المرة الأولى التي يكون فيها بهذا القرب - والعجيب أنه لم يهتم بقرب المسافة، قدر انشغاله بتفسير مغزى هذه الابتسامة حتى اللحظة؟

(3)
أشهد أنني حي، فقط حين أرى التماعة عينيها

لن ينسى كيف استبد الحزن بملامحها حينما أخبرها بنتيجة عامه الثاني في المدرسة الثانوية. نتيجة مخيبة لكنها منطقية تمامًا بالنسبة لطالب يكره كل ما يتصل بـ"التعليم! " في بلده. لا يهوى العلوم ولا يدرُس أصلا علومًا بالمعنى المعروف في كل الدنيا، فلم دخل هذا القسم الملعون؟

اقرأ/ي أيضًا: أوصيكم بالناس شرًا

بلا بديل آخر، دخل القسم الأدبي الذي كان يناسبه منذ البداية، وحينما ظهرت نتيجة آخر العام كان مجموعه الكلي يقارب منتصف الثمانينيات، إلا أن أمه أصرت على أن تقول لأي أحد يسأل مجموع السنة الثالثة بالذات وكان يُقارب الخمسة وتسعين بالمائة، ويعني أنه الأول بالقسم الأدبي لهذا العام.

تحزن أمه فتلتمع عيناها، تفرح أمه فتلتمع عيناها أيضًا، لكن بين التماعة الحزن والتماعة الفرح بون شاسع. لا يشعر بلذة القرب من واهبتِه الحياة إلا في هذه اللحظة، ولا يتحقق لديه معنى أنه ابنها حقًا وصدقًا إلا في هذه اللحظة، لحظة تلتمع عينا أمه بالفرح والفخر، ساعتها فقط يؤمن بأنه حي وربما حر كما قال درويش ذات يوم لكن بلا نسيان يا عزيزتي، بلا أدنى رغبة في النسيان.

(4)
تحت سمائها، يغدو لحياتي معنى

في البحث عن معنى الحياة، عاجلًا أم آجلًا ستصدم بتساؤل هل أحببت، هل تُحب، هل تتمنى أن تحب؟ بعد أن تجيب، فقط بعدها ربما تغدو لحياتك قيمة، وربما تكتسب حياتك معنى.

خلاصة ما توصلت إليه بعد قضائي هذه العقود على هذه الأرض أن الحياة لابد أن تعاش بوجهيها، وجه المأساة ووجه الملهاة وإن حاولت يا مسكين أن تُغلّب أحد الوجهين على الآخر، فأنت المُلام

صدقني يا عزيزي بلا محبة ستتجرد الحياة من العاطفة والسبب اللذين يجعلان احتمالها مبررًا، والوجود في إطار الأحياء مفهومًا وربما مقبولًا. لا يدعي كاتب هذه السطور الحكمة - فما أعظم الجنون والمجانين - لكن ادعاء الحكمة يا صديقي كثيرًا ما يكون مُغويا، وهاك الدليل.

تعرفا إلى بعضهما قبل سنوات، لم يلتقيا أبدًا وجهًا لوجه خلالها. تواصلا عبر مواقع يجذب بعضها عموم الناس، وبعضها خواصهم. سافر هو عدة مرات لأغراض العمل أو للبحث عن عمل، في سفرته الأخيرة وكانت للبحث لا للعمل، استبد به شوق غريب إليها. تفكير أشهر مضت فيها، وفيم يمكن أن تكون بالنسبة له لبقية حياتيهما ملك عليه نفسه وشغل باله.

وحينما رفع سماعة الهاتف ليحادثها - لم يجرؤ أن يفعل ذلك وكلاهما تحت سماء نفس البلد - من البلد العربي الذي كان مقيمًا به مؤقتًا. تحقق لديه القول بأنك إن استكانت نفسك لوليفها في هذا العالم غير المفهوم، سيغدو للدنيا بريق، ويغدو للحياة جمال. ولا أجمل من عناق قلبين ولو على البعد، ثم يأتي القرب بعد التنائي. ولأجلها ترك البلد العربي، وتحمل لوم المقربين وسخريتهم المبطنة من إخفاقه السريع، لكنه كان على يقين من أنها أهم من السفر، أهم من العمل، أهم من المال ذاته. ومعها وبوجودها وتحت سمائها، سيغدو لحياته معنى وسينال كل ما ضحى به طائعًا قبل ذلك. أهم من الدرب، رفيقك على الدرب، وقد وجد هو الرفيق.

فمرحبًا بما هو قادم أنى يكون.

(5)
الزمن مستقيم أم دائري؟ والتساؤل هنا مجازي لا حقيقي، والمعنيُ بالجواب أهل الأدب والفكر لا أهل الفيزياء - إلا لو قرروا تنحية القواعد العلمية جانبًا -.

هل يُقاس نمو الإنسان العمري تحديدًا بمقدار ما عاشه من سنوات، أم بمقدار آونة البهجة والسعادة التي قد يُرحب هو نفسه بجعلها مقياسا مختارًا للمدة التي قضاها حيًا في إطار العالم الذي نعرفه – أو هكذا ندعي - وأقصد به عالم الحس والمشاهدة.

يشغلني هذا السؤال بين الفينة والأخرى، وبطبيعة المناسبة أستدعيه أو يفرض هو نفسه عليّ مع حلول ذكرى ميلادي في كل عام. لا يبدو الانشغال بإجابة هذا السؤال تحديدًا أمرًا ثانويًا من حيث الأهمية، فمجتمعاتنا الشرقية - العربية بالتحديد - يُصر معظم من يحيون فيها على المعيار المستقيم أو الكمي لحساب نمو الإنسان.

فإن تزوجت الفتاة في عمر العشرين مثلًا فهي أنجح وأسعد من أختها أو صديقتها، التي لم تتزوج وتخطت - ياللهول! - حاجز الثلاثين المرعب. وهذا الذي لم يستقر في مجال عمل حتى الآن وقد جاوز الثلاثين هو بالتأكيد أتعس حالًا، ممن يعمل في وظيفة ما لم يغيرها - وغالبًا لن - منذ أن التحق بها حتى يلتحق بالرفيق الأعلى.

وأسوأ ما في هذا الإصرار تنميطه لمعنى النمو، وفرضه لنموذج واحد ووحيد لنفس المعنى. الأمر الذي يضع كثيرين من الشباب والفتيات في موضع الدفاع المستميت عن اختياراتهم ورغباتهم في الحياة، المرتبطة ببساطة بمعيار دائري لا مستقيم، لا يرى الكم أو الحساب التصاعدي لحياته من ناحية العمر أو الاختيارات كعمل وسفر وزواج، معيارا منطقيًا أو مقبولًا، فضلًا عن أن يكون صالحًا لأن يعتمده كل الناس.

وبعد. فالعالم كما رأيته وأراه دومًا مكان معتم، بلا ملامح واضحة، يسوده القبح وتعُمه الفوضى. تتصارع بين أركانه إرادات البشر ورغباتهم، وهو صراع ممتد من الأزل للأبد، ونعزو بسببه كل نقيصة للحياة، وأبرز ما ندعى أن الحياة غير عادلة! حسنًا ياسادتي ليست الحياة ولكن البشر، نحن المدانون فكفانا تهربًا من خطايانا بإلقائها على هذه المسكينة الحياة، والتي بدون وجود البشر ما كانت لتحظى بهذا الاسم.

وبعدُ أيضًا. فخلاصة ما توصلت إليه بعد قضائي هذه العقود على هذه الأرض أن الحياة لابد أن تعاش بوجهيها، وجه المأساة ووجه الملهاة وإن حاولت يا مسكين أن تُغلّب أحد الوجهين على الآخر، فأنت المُلام. وعلى أية حال فنحن سنمضي كما مضى ملايين البشر قبلنا فلا موجب للقتال طوال الوقت، ولا مبرر للهزل طوال الوقت.

معاملة الحياة كعراك حينًا وكلعبة هزلية حينًا، هي الوصفة المُثلى في نظري - حتى الآن على الأقل -، ومحاولة إضاءة مساحة معتمة من هذا العالم المظلم الذي نحيا على أرضه هي المحاولة الوحيدة الجديرة بالسعي في رأيي. ولن يكون ذلك إلا بالمحبة، وبالوجود إلى جوار من نحب.

وأحسب أن هذه - في تقديري - حكمة خلق البشر ونشأة الكون، فالبشر ما وجدوا على الأرض إلا لاكتشاف الخلاص في الحب وبالحب، ومن ثم العودة مرة أخرى إلى السماء. وكل ما أتمناه حينما يحين موعد العودة ألا أعود وحيدًا. وأن يكون من أحبهم إلى جواري، وكل عام وأنا وأنتم بخير ولو إلى حين.

اقرأ/ي أيضًا:
في الحاجة إلى "جريندايزر" فلسطيني!
حفلة التفاهة

دلالات: