28-أغسطس-2016

نيويورك 1899 (Atlantic)

لعلّ هذه القصّة تكون أشهر ما كتبته كيت شوبن من قصص قصيرة إلى جانب روايتها التي خرجت فيها عن كلّ مألوف تقليديّ قبل أكثر من مائة عام من الآن وهي رواية "الصحوة" التي نشرت عام 1899 لتكون من أوائل أعمال الرفض النسوي في الأدب الأمريكي. نقدّم للقراء ترجمة جديدة لهذه القصّة الفريدة التي تدور حول المتعة المحرّمة للحريّة والاستقلاليّة، ولاسيما للمرأة في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الأمريكي. 


لأنهم كانوا يعرفون أنّ السيّدة مالارد تعاني من علّة في قلبها، فقد حاولوا جاهدين أن يحملوا إليها خبر وفاة زوجها بتلطّف وحذر شديدين.

لقد تولّت هذه المهمّة أختها جوزيفين، إذ أخبرتها بذلك مستخدمةً أشباه جمل، وبإشارات مبطّنة أظهرت ما أظهرته وهي تحاول كتمانه. ولقد كان صديق زوجها، واسمه ريتشَارد، متواجدًا قربها كذلك، وهو الذي كان في مكتب الصحيفة حين وصلت أنباء عنْ حادثة على خطّ سكة الحديد وتصدّر اسم برينتليمالارد قائمة "القتلى". وبمجرّد أن تأكد ريتشارد من صحة هذه الأخبار بعد تلقّيه رسالة أخرى بالتلغرام سارعَ إلى بيت صديقه كي يحول دون وصول الخبر عن طريق أي صديق آخر أقلّ حرصًا أو لباقةً في نقل أخبار هذه الفاجعة.

هي لم تستمع إلى القصة كما استمعت إلى مثيلاتها نساء كثيرات قبلها، إذ لم تتلقّها بذلك العجز الشبيه بالشلل، والذي يحول دون قبول الأمر على فجاعتها، وإنّما طفقت تبكي في حالة مفاجئة وجامحة من الاستسلام بين ذراعي أختها. وحين تلاشت عاصفة الحزن انزوت في غرفتها وحيدة. لم تسمح لأحد بأن يتبعها.

كان في غرفتها قبالة النافذة المفتوحة كرسيّ مريح وواسع. وعليه ألقت نفسها، يسحبها إليه ذلك الإعياء الذي سكن جسدها وبدأ يتسلّل إلى روحها. كانت تستطيع أن ترى في الميدان الواسع أمام بيتها أطراف الأشجار التي تهتزّ معلنةً بدء حياة الربيع. لقد كان في الهواء نفسُ المطر اللذيذ. وعلى الشارع أسفل منها كان يمشي البائع المتجوّل يدلّل على بضاعته. بالكاد وصلتها نغمات أغنية بعيدة كان يغنيها أحدهم في مكان ما، وعددٌ كبير من عصافير الدوري كانت تغرّد عند إفريز البيت.
 
وكانت تظهر أحيانًا مساحاتٌ من زرقة السماء من بين الغيوم التي التقت وتلبّدت فوق بعضها جهة الغرب مقابل نافذتها.

جلست ورأسها ملقىً على مسند الكنبة تكاد لا تتحرك إلا حين يباغتها نشيج ويغص في حلقها فيهزّها، ويكأنّها طفل بكى حتى النوم ويستمرّ بالبكاء في أحلامه.

لقد كانت شابّة، لها وجه فيه مسحةٌ من جمال وهدوء، وتكادُ قسماته تنبئ عن قمعٍ ما وشيء من قوّة. ولكنّ عينيها الآن مسكونتان بنظرةٍ من كمد، وتحديقها كان لا ينتقل عن ذلكَ المكان بين تلك البقع الزرقاء في السماء. غير أنها لم تكن نظرة تأمّل وإنما كانت تدلّ على ترقّب من قلبٍ ذكيّ.

ثمّة أمر كان في طريقه إليها وهي في انتظاره وإن على وجل. فماذا كان هذا الأمر يا ترى؟ لم تعرف كنهه، كان أمرًا تصعب معرفة اسمه بسبب بلوغه الغاية في الدقّة والغرابة. مع أنّها شعرت به، يتسلّل عبر السماء، ويقترب نحوها عبر الأصوات والروائح والألوان التي ملأت الأجواء.

والآن دبّت رعشةٌ في صدرها وهزّته بشدّة. بدأت تدرك ذلك الأمر الذي كان يقترب منها ليتملّكها، وانتفضت لتدفعه عنها بكل قوّتها، رغم كل الضعف الذي حلّ بيديها البيضاوتين النحيلتين. وحينما خلّت نفسها افترّت شفتاها فجأةً عن كلمة ما. قالتها وطفقت تكرّرها بتكرار نفسها: "حرّة، حرّة، حرّة!". لم يبق في عينيها ما لازمها من ذلك التحديق الخاوي والنظرات الوجلة، بل صارتا متيقظتين مشرقتين. قلبها ينبض بسرعة، والدم الدفّاق بعث الدفء والاسترخاء في كل جزء من جسدها.

لم تقف كثيرًا لتسأل نفسها إن كان ما راودها عن نفسها شعورًا بفرحٍ وحشيّ، فقد كانت تمتلك رؤية رفيعة ساعدتها على أنْ تسقط هذا الظنّ لسخفه. لقد كانت تعرف أنّها ستنتحب من جديد حين ترى اليدين اللطيفتين الرقيقتين يلفّهما الموت، أو حين ترى ذلك الوجه الذي لم ينظر إليها سوى بالحب وهو هامد وشاحب وميّت. غيرَ أنّها استشرفت من وراء تلك اللحظة المريرة أعوامًا مديدة قادمةً ستكون من دون شكٍّ ملكها، وما كان منها إلا أن فتحت لهذه الأعوام ذراعيها على اتساعهما مرحّبةً بها.

لن يكون ثمة من تعيش لأجله في ما ستستقبله من سنوات، بل ستعيش من أجل نفسها. لن يكون في حياتها أية إرادة قويّة قادرة على كسر إرادتها بسبب ذلك الإصرار الأعمى الذي يعتقد فيه الرجال والنساء أن من حقهم أن يفرضوا إرادتهم الخاصة على من يعيش معهم. وسواء كان القصد حسنًا أو وحشيًا فإن هذا لن يغير في كون هذا الأمر جريمةً حين انقدحت في رأسها هذه الفكرة في تلك اللحظة القصيرة من التجلّي.

ومع أنّها كانت تحبّه، وإن أحيانًا، إلا أنها غالبًا لم تفعل. لا فرق أصلًا، فما الذي يمكن للحبّ، ذلك اللغزُ المعجِز، أن يفعل في وجه ما تملّكها من اعتدادٍ بنفسها حين بدا لها بغتةً أنه أقوى نشوةٍ تهزّ كيانها!

طفقت تتمتم: "حرةٌ! في جسدي وروحي حرّة!". كانت جوزفين تجثو على ركبتيها عند الباب المغلق ترجوها عبر ثقب المفتاح أن تسمح لها بالدخول. "يا لويسا، افتحي الباب! أتوسّل إليك، افتحي الباب، ستهلكين نفسك وأنت على هذه الحالة. يا لويسا، ماذا تفعلين؟ بالله عليك افتحي الباب".

"اذهبي من هنا، لن أهلك نفسي". نعم، إنها لن تؤذي نفسها، وإنما تحتسي إكسير الحياة عبر تلك النافذة المشرعة.

كانت خيالاتها تجمح بها وهي تنظر في أيامها المقبلة، من أيام الربيع إلى أيام الصيف، وكل تلك الأيام التي ستكون لها وحدها. همهمت بدعوةٍ سريعة لعلّ الحياة تكون طويلة. في الأمس القريب فقط كانت فكرة الحياة الطويلة تبعث الخوف فيها.

نهضت أخيرًا وفتحت الباب استجابةً لتضرّعات أختها. بدا في عينيها انتصار متوقّد، ومشت دونما وعي كأنها آلهة النصر. ثبّتت يدها على خاصرة أختها ونزلتا الدرج سويّة، وكان ريتشارد يقف بانتظارهما في الأسفل.

شخص ما كان يفتح الباب الرئيسي للبيت. إنّه برينتليمالارد، يبدو عليه أثر السفر، متمالكًا نفسه كان يحمل حقيبة يدٍ ومظلّة. لقد كان بعيدًا عن مكان الحادثة، بل ولم يعرف حتّى بأمرها. وقف تعلوه الدهشة أمام صراخ جوزفين الحاد، ومشهد ريتشارد وهو يتحرك بسرعة ليمنعه من رؤية زوجته وهي على تلك الحالة.

حين أتى الأطباء قالوا إنها ماتت من مرضِ القلب، من الفرحة التي تقتل. 

اقرأ/ أيضًا:

من منبج إلى بيروت

رسالة إلى سلطانة