09-نوفمبر-2015

لا يمكن تجاوز كوريا اقتصاديًا اليوم (اد جونز/أ.ف.ب/Getty)

في أكثر من مناسبة عقد إعلاميون مقارنة بين مصر وكوريا خلال خمسينيات القرن الماضي، متحدثين عن تفوق الدخل الفردي المصري على نظيره الكوري في تلك الحقبة، ومستعجبين من التفوق الكوري والتراجع المصري، رغم تفوق الثانية من حيث الموارد والقدرات البشرية والموقع. لكن تلك المقاربات لطالما تجاهلت الظروف التي نقلت كوريا من أفقر دولة بالعالم إلى واحدة من أفضل عشرين اقتصاد في العالم.

صنفت المؤسسات الدولية كوريا الجنوبية على أنها "حالة ميؤوس منها" اقتصاديًا في خمسينيات القرن الماضي

كوريا الجنوبية قوة اقتصادية متنامية ومتينة التقدم، استطاعت رغم الظرف الإقليمي الشائك وحالة اللاسلم واللاحرب مع جارتها الشمالية أن تقدم نموذجًا تنمويًا مختلفًا ومتطورًا. كسرت احتكار قطبي آسيا الصين واليابان على مستوى التجارة والعلاقات الدولية لتصبح شريكًا ثالثًا راسخًا لا يمكن تجاهله.

طريق وعر سلكته كوريا الجنوبية عنوة لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، ولتصبح نموذجًا تنمويًا تحاول العديد من الدول الآسيوية والإفريقية واللاتينية استنساخه، فكيف تمكنت دولة لا تمتلك الموارد الطبيعية ولا الموقع الجغرافي التجاري الداعم ولا رأس المال البشري المناسب من تحقيق هذه النقلة النوعية؟

صنفت المؤسسات الدولية كوريا الجنوبية على أنها "حالة ميؤوس منها" اقتصاديًا في خمسينيات القرن الماضي، فقد كانت دولة خارجة من احتلال ياباني دام قرابة سبع وثلاثين سنة خرج وأخرج معه معظم مصانعه ومقومات البنية التحتية الاقتصادية الضعيفة أصلًا بالبلاد، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى اندلعت حرب أهلية طاحنة بين الشمال والجنوب عام 1950، أتت على ما تبقى من مقومات البلاد المحدودة، وانفصل الشمال الغني بالثروات تاركًا الجنوب لقدر مجهول جعل من كوريا الأفقر بالعالم على مستوى الدخل الفردي السنوي بحوالي أربعة وستين دولار.

واقع صعب وضع صانع القرار الكوري الجنوبي بأزمة، فهو يدير بلاده بلا موارد وبدعم خارجي متذبذب وباضطرابات داخلية واحتجاجات متواصلة لا تهدأ، هذا الواقع حفز الضابط بالجيش بارك شونغ هي ليتحرك مع جنوده باتجاه العاصمة ويمسك بالسلطة واعدًا الشعب بالأفضل.

هكذا سارع الجنرال بارك لتمكين سياسة إعادة توزيع ملكية الأراضي، ونجح من خلالها بتعزيز الإنتاج الزراعي وإطلاق نموذج خاص بالتنمية الريفية القائمة على المشاركة بعدما أصبح خمسة وستون بالمائة من السكان يملكون الأرض، وبدأ الحراك الاقتصادي والاجتماعي يظهر من خلال إسهام جميع الفئات بتوفير العملة الصعبة اللازمة للنهضة الاقتصادية، الممرضات والسائقون والجنود عملوا بالخارج ما ساعد إلى جانب الدعم الألماني والنمساوي بتوفير الأموال للبدء بالتحول الصناعي الموجه.

انطلقت كوريا بالصناعات الخفيفة واستفادت من ميزتها التفضيلية بالأيدي العاملة الرخيصة لتحرك عجلة التصنيع، وبالتدريج بدأت الصناعات الكورية تتقدم من حيث الجودة وتنفتح لها الأسواق العالمية ما حول الأيدي العاملة الكورية إلى ماهرة، وقاد بخطط اقتصادية رسمية متوالية للصناعات الثقيلة، فأنشأ الجنرال بارك مصنع الحديد والصلب "بوسكو" وانتقل بقوة إلى مرحلة جديدة صحبتها معدلات اقتصادية متصاعدة بسرعة وبشكل مذهل.

لم يكن التخطيط السليم والإرادة السياسية العاملين الوحيدين لتحقيق هذا التقدم، بل كان التركيز على التعليم وتطوير قدرات الجيش دعامتين أساسيتين، ما وضع الأساس لتحول كوريا من أكثر دول العالم أمية عام 1922 بمعدل تعلم لا يزيد عن اثنين وعشرين بالمائة إلى مستويات تزيد عن ستين بالمائة خلال السبعينيات، كما استطاع رفع قدرات الجيش وتحديث أسلحته من خلال دعم الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام وخلق علاقة شراكة استراتيجية معها.

تحولت كوريا من أكثر دول العالم أمية عام 1922 بمعدل تعلم لا يزيد عن 22% إلى مستويات تزيد عن 60% خلال السبعينيات

بقيت الركائز الثلاثة: التعليم والتخطيط الاقتصادي والقوة العسكرية ثابتة وراسخة في إدارة الدولة الكورية حتى بعد اغتيال الجنرال القوي الذي استطاع بصرامة وقوة وعدالة إرساء أركان نموذج تنموي ناجح يتسم بالعدالة والاستدامة.

استطاعت كوريا ترسيخ قوتها، وأصبحت في الموقع الدولي الثالث عشر على مستوى الدخل القومي بما يقارب واحد ونصف ترليون دولار، والموقع الخامس عشر على سلم التنمية البشرية، والثالث والأربعين على مؤشر الشفافية. كوريا الجنوبية اليوم دولة نووية تمتلك خامس أكبر مصنع صلب بالعالم، وخامس منتج للسيارات من حيث نسب المبيعات، إضافة لقوة صناعاتها بالسفن والهواتف الذكية ونشاط موانئها ومطاراتها. تحولت لدولة مانحة بعدما كانت من الدول التي تتلقى المساعدات.

رحلة شاقة وصعبة صنعت "معجزة نهر الهان" وجعلت من كوريا نموذجًا مختلفًا. والحال أن العديد من الدول تمتلك المقومات والأدوات لتحقيق أكثر مما حققت هذه الدولة الفقيرة من حيث الموارد، لكن الإرادة الغائبة لترسيخ قوة المؤسسة وبناء الدولة على أسس سليمة توائم بين الطموح والإمكانات والجهد تجعل من كوريا الجنوبية معجزة وملهمة.

مع كل ما سبق لا يمكن إغفال دور الولايات المتحدة الأمريكية في بناء كوريا الجنوبية وتطويرها لتكون قاعدة سياسية وعسكرية متقدمة لها في آسيا ولتطرح نموذجًا غربيًّا في التنمية قبالة الحالة الكورية الشمالية، هذا عامل رئيسي، إلا أن تفسير النهوض الكوري بالاعتماد عليه وحده، يجعل فهم الحالة قاصرا، تماما كتفسير الحالة الكورية الجنوبية بدونه.

 

اقرأ/ي أيضًا:
اقتصاد الشركات يتجاوز اقتصادات الدول
تكميم الأفواه والقمع في شوارع موسكو