06-فبراير-2023
كتاب قضايا التكامل المعرفي في التّراث الإسلامي

كتاب قضايا التكامل المعرفي في التّراث الإسلامي

صدر عن إدارة البحوث والدّراسات الإسلاميّة في دولة قطر، ضمن سلسلة كتاب الأمّة، كتاب بعنوان "قضايا التّكامل المعرفيّ في التّراث الإسلاميّ- أبو حامد الغزالي أنموذجًا"، لمؤلفه الباحث بلال شيبوب من دولة المغرب. الكتاب في حدود مئتي صفحة، يتضمّن خمسة فصول.

يقوم الكتاب على مبدأ علميّ في تجلّي العلاقات بين العلوم؛ وذلك في حدود مفهوم التّكامل المعرفيّ، ذلك المصطلح الذي يحمل أبعادًا علائقيّة تنوّعت في طبيعة التكامل، وتطبيقاته، ومدى قدرة التكامل في اختيار المفاهيم التي ترتحل بين العلوم لتنشئ مادّة معرفيّة شاملة.

ابن حزم: "فإنّ من رام الارْتقاء إلى أرْفع العلوم دون معاناة ما لا يوصل إليه إلّا به، كمنْ رام الصّعود إلى علّيّةٍ مفتّحةٍ مظلمةٍ أنيقة البناء، دون أنْ يتكلّف التّنقل إليْها في الدّرج والمراقي الّتي لا سبيْل إلى تلك العلّية إلا بها"

بدأ شيبوب كتابه بمقدّمة عرض فيها وجهة نظره في التّمهيد لبناء نظريّةٍ معرفيّة إسلاميّة، إذ إنّ هذه النظريّة لا تتأتى إلّا بالرجوع إلى التّراث الإسلاميّ، ودور هذا التراث في إنضاج العلوم وإثرائها. متمثّلًا النّبش في أيقونة رائد المعرفيّة التكامليّة في التراث أبي حامد الغزالي؛ ذلك أنّ مصنفاته ذات طابعٍ موسوعيّ، تجمع أصول الفقه، وعلم الكلام، والفلسفة، والتصوّف.

فنّد شيبوب في الفصل التمهيديّ غرْبيّة مصطلح التكامل المعرفيّ، وذلك بعرض سلسلة من الكتب التراثيّة احتوت على سلسة معارف قائمة على أسس تكامليّة، منها: إحصاء العلوم للفارابيّ، الفهْرست لابن النديم، مفاتيح العلوم للخوارزميّ، الزّينة في الكلمات الإسلاميّة والعربيّة لأبي حاتم الرّازيّ، ومراتب العلوم لابن حزْم، مقدمة ابن خلدون، مفتاح السّعادة ومصباح السّيادة في موضوعات العلوم لطاش كبرى زاده، ترتيب العلوم للمرعشي (ساجقلي زاده)، التعريفات للشريف الجرجانيّ، التوقيف على مهمّات التعاريف لمحمد المناوي، كشّاف اصطلاحات الفنون للتهانوي. بالإضافة إلى كتب أبي حامد الغزالي إحياء علوم الدّين الذي دعا فيه مباشرة لفكرة التّكامل المعرفيّ.

بدأ شيبوب الفصل الأوّل بالحديث عن التكامل المعرفيّ: المظاهر والأصول، في حدود ما قدّمه الغزاليّ في كتابيه: إحصاء العلوم، مراتب العلوم. وذلك بشرح مفصّل لمعايير ترتيب العلوم، ومبدأ التفاعل بينهما؛ حيث إنّ الكتاب يعرض بشكل مختصر لهذه المعايير، أهمّها: معيار شرف الثمرة، معيار عموم الحاجة، معيار تفضيل علوم الدّين على غيرها، معيار قرْب العلوم الآلية من علوم المقاصد. ثم يعرض شيبوب مبدأ التفاعل وصوره، معتمدًا على مقولة ابن حزم الشهيرة: "فإنّ من رام الارْتقاء إلى أرْفع العلوم دون معاناة ما لا يوصل إليه إلّا به، كمنْ رام الصّعود إلى علّيّةٍ مفتّحةٍ مظلمةٍ أنيقة البناء، دون أنْ يتكلّف التّنقل إليْها في الدّرج والمراقي الّتي لا سبيْل إلى تلك العلّية إلا بها".

بعد الحديث عن معايير التّكامل، ينقلنا شيبوب للحديث عن أصول التّكامل المعرفيّ عند الغزاليّ، وقد اختصرهما في أصلين: أصل تكامل النّقل والعقْل، أصل تكامل العلْم والعمل. أمّا تكامل النّقل والعقل فهو أصل نظريّة المعرفة الإسلاميّة، وفي ذلك نجد كوجيتو الغزاليّ: فصريْح المعقول لا يعارض صحيْح المنقول، بلْ يشْهد له ويعضده. ومن هنا جاء تقسيم العلوم عند الغزاليّ إلى: علوم عقليّة محضة، وعلوم نقليّة محضة، وعلوم يزدوج فيه العقل والسمع. بعد التكاملات العقليّة والعمليّة، خلص شيبوب الوصول إلى النظريّة التوحيدية، تلك النظريّة التي فنّدها العديد من أصحاب الفكر الماركسيّ في نفيهم فكرة التوحيد. وذلك لقصورهم في فهم المطلق؛ فالوحي جاء بإشارات لتلك المعارف ووجب على الإنسان تحريك داعيته لاستنطاق تلك العلوم، وبذلك يمثل التكامل المعرفيّ بين العلوم أحد تجليّات التوحيد على المستوى العلميّ.

في الفصل الثاني تحدث شيبوب عن ضّوابط التّكامل المعرفيّ عند الغزاليّ، لخّصت في أربعة ضوابط: الأهليّة، التناسب، الاعتدال، الحاجة. وقد تبعت هذه الضوابط بمحاذير التعامل مع التكامل المعرفيّ وأهمّها التقليد المستلب الذي يقوم على المحاكاة الكليّة دون قواعد كليّة. والخلط بين العلوم دون دراية؛ مثل انجرار الأصوليين إلى مسائل كلاميّة، وفقهيّة، ولغويّة، ليست من أصول علم الفقه.

سعى الغزاليّ في كتابه القسْطاس المستقيم إلى وضع موازين عقليّة قائمة على القياس المنطقيّ وأشكاله تغني عن الأخذ بالإمام المعصوم

 

أمّا الفصل الثّالث فاختار الباحث علْم أصول الفقه ليحدّثنا عن أنماط التّكامل المعرفيّ عند الغزاليّ؛ وفْق تكاملين: داخليّ، وخارجيّ. فالتّكامل الداخليّ حدّده شيبوب في تفاعل أصول الفقه مع العلوم الآتية: علم الفقْه، علْم اللّغة العربيّة، علْم الكلام؛ وقد استطرد شيبوب في شرح الأمثلة حول طبيعة هذا التكامل ليخلص وفق نظريّات الغزاليّ أنّ التكامل الداخليّ لا يعني الإفراط؛ فمثلًا في علاقة الفقه مع اللغة العربيّة نجد الغزاليّ يحدّث في ضرورة ملازمة الاقتصاد في تحصيل العلوم العربيّة، فلا تفريط في التّوسّع ولا تفريط في التّرك. أما التّكامل الخارجيّ في علم أصول الفقه فكان من خلال تفاعل أصول الفقه مع المنطق؛ خصوصًا أنّ المنطق يقدّم قياساتٍ تساعد علم الأصول في بناء نطاقٍ معرفيّ، ومن هذه القياسات: براهين الاعتلال، والاستدلال والخلف.

الفصل الرّابع جاء في حدود المجادلات التي حدثت مع الغزاليّ خصوصًا مع الباطنيّة، والفلاسفة تحت مسمّى الإكراهات الواقعية للتكامل المعرفيّ. أما الباطنية فقد أهملت العقل وأسلمت التفكير إلى الأئمة المعصومين، وعدم إيمانهم بالضوابط العقدية، بالإضافة إلى اعتمادهم على ثنائية الظّاهر والباطن، وكذلك استخدامهم الحيل في استمالة الناس إليهم، وقد سعى الغزاليّ في كتابه القسْطاس المستقيم إلى وضع موازين عقليّة قائمة على القياس المنطقيّ وأشكاله تغني عن الأخذ بالإمام المعصوم. أما مجادلات الفلاسفة فكانت صعبة لأن معظم فلاسفة عصر الغزاليّ يؤمنون بوجود صانع للكون عدا الدهريّة، فاعتمد شيبوب على آراء الغزاليّ في كتابه المشهور: تهافت الفلاسفة حيث جادل الغزاليّ الفلاسفة في حدود منطقهم ومفاهيمهم الفلسفيّة، دون الوقوع في آفة الخلط والاستلاب حيث إنّ الغزالي استخدم مصطلحات فلسفيّة في هذا الجدال.

الفصل الأخير حمل عنوانًا جميلًا: ترحال المفاهيم.. وفيه بيّن شيبوب تأثير التّكامل المعرفيّ بين العلوم ومدى استفادة تلك العلوم من المفاهيم المتقاسمة بينها، وقد نمذج على ترحال المفاهيم بمفهوم العلّة، ذلك أن العلّة مفهوم يحمل أبعاد الفلسفة وعلم الكلام وعلم أصول الفقه، موضحا كيفيّة انتقال العلّة وفق الزمانية والمكانية وذلك في حدود القراءة الغزاليّة لذلك المفهوم.